تنطوي دراسة أي مفهوم على ضرورة الوقوف عند تعريفاته ومكوناته وأبعاده، لمساعدتنا على وضع تصور فكري عام يسهل مهمتنا في فهم وشرح التطبيقات العملية لهذه المفاهيم على ارض الواقع، والمفاهيم التي سنتطرق إليها في بحثنا هي الثقافة السياسية والهوية الوطنية.
تعد الثقافة السياسية مصطلحاً حديثاً كانت المدرسة السلوكية أول من أولته بالبحث، ثم تبنته المدرسة التنموية في مطلع ستينيات القرن الماضي في محاولة منها لتمييز مراحل نمو وتطور النظم السياسية وانتقالها من نظم تقليدية إلى أخرى حديثة ، وقد تعرض عديد من الباحثين بالبحث والتحليل لموضوع الثقافة السياسية وأعطوها تعريفات عدة أبرزها تعريف (جيمس س. كولمان) الذي يعتقد بأنها: "منظومة من المواقف والمعتقدات والقيم السائدة فيما يخص النظام السياسي" ، أما (لوشيان باي) فينظر إلى الثقافة السياسية كونها: "مجموع الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تعطي نظاماً ومعنى للعملية السياسية وتقدم القواعد المستقرة التي تحكم تصرفات الإفراد داخل النظام السياسي"، ولا يخرج تعريف الأستاذان (جورج روبرتس واليستر ادواردز) عن هذا الإطار، فالثقافة السياسية حسب رأيهم هي: " النموذج الشامل للاتجاهات والقيم والمواقف والعقائد التي يتبناها الأفراد أعضاء مجتمع سياسي ".
إن الثقافة السياسية تحتوي جوانب متعددة مثل عوامل التنشئة الاجتماعية والسياسية وأساليبها، والعلاقات السائدة بين القيم السياسية والإجراءات التي يطبقها النظام السياسي، والمواقف من القيادة والسلطة والهوية السياسية سواء للإفراد أو المجموعات.
وتضم الثقافة السياسية ثقافات فرعية يمكن التمييز فيما بينها بالاستناد إلى عوامل عدة مثل الدين والإقليم والعرق والمكانة الاجتماعية وغيرها، وتتكون هذه الثقافات من قيم ومواقف سياسية متمايزة عن قيم ومواقف الثقافة السياسية العامة، ورغم أن البعض يرى في هذه الثقافات مصدر ضعف أو تهديد لعملية الاندماج السياسي في المجتمع على اعتبار أنها قد تشجع ظهور أراء وتوجهات تطرح نفسها بوصفها بديلاً للثقافة المهيمنة، إلا أن آخرون يرون فيها عامل ثراء واغناء في المجتمع نظراً لأنها قد تشكل قوى دافعة للتغيير في المجتمع، وتتيح للناس الحرية في التعبير عن أرائهم والسعي لتحقيق ما يسعون إليه .
وتتمحور الثقافة السياسية حسب التصنيف الذي (أورده غابرييل الموند وسيدني فيربا) في كتابهما (الثقافة المدنية) وهو التصنيف الأكثر شيوعاً، حول ثلاثة أنماط تحددها أربعة موضوعات هي النظام السياسي، والمدخلات أي نشاط الأفراد السياسي مثل الترشيح والانتخاب، والمخرجات أي نشاط الحكومة مثل تقديم المساعدة الاقتصادية للمواطنين وتنظيم شؤونهم ورعاية مصالحهم، وتصور الأفراد لذواتهم كمشاركين في الفعاليات السياسية، وهذه الأنماط هي: الثقافة الضيقة (التقليدية)، والثقافة التابعة (الخاضعة)، والثقافة المشاركة .
1ـ الثقافة السياسية الضيقة (التقليدية): يتصف أفراد المجتمع في ظل هذا النمط من الثقافة بضيق الأفق والتفكير، حيث لا يوجد هناك ما يربط بينهم وبين النظام السياسي، فضلاً عن انه لا تتوفر لديهم معلومات بالقدر الكافي عنه، ويتسم وعيهم من جهة وإدراكهم حول تأثيرهم والتزامهم تجاه النظام السياسي من جهة أخرى بالانعدام، مما يعني أنهم لا يؤثرون بالعملية السياسية ولا يتأثرون فيها.
2ـ الثقافة السياسية التابعة (الخاضعة): يتصف أفراد المجتمع في ظل هذا النمط من الثقافة بإدراكهم الحسي بأنهم أصبحوا جزءاً من النظام السياسي وبأنه يمتلك تأثيراً على حياتهم، ورغم أنهم قد يكّونون آراء سلبية كانت أم ايجابية حول العملية السياسية، وإحساس أو تصور حول شرعية أو عدم شرعية النظام والسلطة السياسية إلا أن توجهاتهم إزاء المشاركة السياسية تتسم بالسلبية، ونظرتهم لدورهم السياسي تبقى نظرة تابعة تتأثر بأفعال الحكومة ولا تؤثر بها.
3ـ الثقافة السياسية المشاركة: يتصف أفراد المجتمع في ظل هذا النمط من الثقافة بقدرتهم على تطوير وعيهم الخاص بعملية المدخلات في المجتمع، مما يسهل من مهمة انخراطهم في العملية السياسية، وهذا يدل على وعي الأفراد بنوعية المطالب الموجهة إلى النظام من جهة وإدراكهم بقدرة هذا النظام على الاستجابة لمطالبهم، وينبع هذا من إدراك الإفراد لحقوقهم السياسية وضرورة ممارستها ، بمعنى أنهم يتأثرون بالعملية السياسية ويؤثرون فيها.
إما الهوية الوطنية فهي مفهوم قديم ظهر في بادئ الأمر في أوربا متخذاً طبيعة دينية لكنه ما لبث أن تحول في القرنين التاسع عشر والعشرين متخذاً السلالة واللغة والثقافة صبغة له، وقد خضعت الهوية الوطنية لتعريفات مختلفة لكنها تلتقي حول فكرة واحدة هي إحساس الفرد أو الجماعة بالذات، فبعض الباحثين يعرف الهوية الوطنية كونها "صور الفردية والتميز الذاتية التي يحملها ويخططها ممثل ويشكلها و(يعد لها مع مرور الزمن) عبر العلاقات مع (آخرين) مهمين" . ويندرج تعريف الباحث (انتوني سميث) في الإطار نفسه إذ يشير إلى أن الهوية الوطنية تعبر عن " الهوية الجماعية المتكونة أو الانطباع المتولد لدى أفراد الأمة عن أنفسهم وثقافتهم التي هي طابع الأغلبية من الإفراد، وتضفي الهوية الوطنية الشرعية على الوضع الاجتماعي والتآلف المشترك.
تعكس الهوية الوطنية بمفهومها العصري سمات الشعب أو الأمة وتحددهما، وبما إن الهوية الوطنية هي نتاج خصائص الثقافة الجماعية والتي تعطي للأمة شعوراً محدداً، وتضع للدولة أسسا تبني عليها حياتها السياسية المستقرة فهذا يعني أنها تسعى لتحقيق التماسك الاجتماعي والوحدة السياسية، بمعنى آخر أن الهوية الوطنية بمفهومها العصري تتخطى الولاءات الأخرى كافة دون إن يؤدي ذلك إلى محوها بالضرورة.
إن الدول ما أن تستكمل بناء أركانها وأسسها تبدأ بمهمة خلق امة عن طريق زرع شعور في نفوس أفرادها بالاستمرارية التاريخية من خلال المناهج التعليمية، ونشر ثقافة مشتركة من خلال فرض لغة موحدة، وخلق اقتصاد موحد، وهذه الإجراءات ستكون كفيلة بتمهيد السبيل أمام ظهور هوية وطنية مشتركة، لكن التصورات النظرية شئ والواقع شئ آخر، فالطبيعة المعقدة للتشكيلات البشرية تضع صعوبات أمام تشكيل الهوية الوطنية، فمثلاً محاولة فرض ثقافة معينة بوصفها أساس لهذه الهوية تتجاهل القيم التي يؤمن بها أغلبية الشعب، أو فئات مهمة منه ستؤدي إلى عدم تجذرها على ارض الواقع، وستدفع محاولة فرض هذه الثقافة والقضاء على القيم المقبولة شعبياً بالقوة إلى توليد ردود فعل سلبية تعمق هذه القيم في قلوب المؤمنين بها، وتخلق تذمراً لديهم من سياسات الدولة الإكراهية .
ستؤدي هذه الحالة إلى تعزيز الهويات المحلية على حساب الهوية الوطنية، فمحاولة الجماعات الاثنية والطائفية كضرورة منها للحفاظ على كيانها الجمعي وتراثها الثقافي وتكريس مصالحها ومزاياها المكتسبة فضلاً عن معاناتها أو شعورها بالتمييز والاضطهاد من قبل الجماعات الأخرى سيدفعها إلى حماية هويتها الخاصة على حساب الهوية العامة .
ويحدد (هنتنغتون) عناصر ستة للهوية الوطنية هي السمات والثقافية والإقليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد تتغير السمة الهامة النسبية في مكونات الهوية الوطنية حسب الظروف والأوقات .
إن معامل الارتباط ما بين الثقافة السياسية والهوية الوطنية واضح ومحدد، فالدول التي تسودها ثقافة سياسية مشاركة نجد أن مواطنيها الذين يشاركون في الحياة العامة ويسهمون في النهوض بمستوى مجتمعهم يتميزون بولائهم الكبير لوطنهم مما يعزز من الهوية الوطنية لتلك الدول، أما الدول التي تسودها ثقافة سياسية خاضعة فنجد أن أفرادها لا يبالون بالمشاركة في الحياة العامة، ويشعرون بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، لا تتعدى مسؤوليتهم تجاه الآخرين خارج نطاق عائلتهم، ولا يثقون بالسلطة السياسية التي يرون فيها أداة لتحقيق مصالح القائمين بها، يتميزون بقلة ولائهم لوطنهم مما يضعف من الهوية الوطنية لتلك الدول .
35/5/925/تح : علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha