اياد نعيم مجيد
من خلال عنوان محاضرة السيد الشهيد (حب الدنيا رأس كل خطيئة) يمكن التطرق إلى العمق الفكري الموجود لديه. والنظر إلى هذه المحاضرة بسطحية فهو ظلم لهذا الرجل العظيم. ماذا يريد الشهيد لنا في هذا العنوان؟ عدم الوقوع في الخطايا عن طريق ترك الدنيا والانزواء بعيدا عن المجتمع في قمم الجبال أو الأماكن البعيدة الأخرى لطلب وجه الله. ولكن الحديث الشريف ينص على انه (لا رهبانية في الإسلام). إذن هذا الشيء محال كون السيد الشهيد اعلم بذلك . ومن جهة أخرى يوصي الشهيد جميع أبناء العراق في الداخل والخارج ان يعملوا كل ما بوسعهم لإزالة الطاغوت عن صدر العراق الحبيب. وهذا دليل على عدم الدعوة إلى العزلة والابتعاد عن المجتمع وإلا فكيف يحصل التغيير. إذن ماذا يقصد الشهيد من عنوان محاضرته ؟ نحن نعلم إن نشأة الكون ثلاثة, النشأة الدنيوية و البرزخية والأخروية .وكل نشأة مقدمة لامتلاك اللياقة المناسبة لأجل الوصول إلى النشأة التي تليها. البرزخ مرحلة انتقالية (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون))(1) أما الدنيا والآخرة فيمكن اقترانهما بالبدن والنفس وكذلك المصلحة الخاصة والعامة .عقليا إصلاح المصلحة العامة يؤمن إصلاح المصلحة الخاصة والعكس غير صحيح. وهناك أدلة قطعية تثبت إن السعادة الحقيقية عندما يتوجه الإنسان إلى نفسه. وحول هذا الشيء يقول الإمام علي (ع) (فاز باللذات من ظفر بمعرفة نفسه) ولكن كيف يمكن التوجه إلى معرفة النفس؟عن طريق معرفة الله "جل جلاله", لان ذوات الأسباب لا تعرف إلا بأسبابها. وهذا واضح وجلي في الحديث الشريف: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) ((أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه )). ولهذا يؤكد السيد الشهيد الصدر ((رض)) في المحاضرة نفسها ((اثنان لا يجتمعان في قلب المؤمن أما حب الله فلما حب الدنيا)) لعلمه إن حب الله يأتي بعد معرفة الله المؤدية إلى معرفة النفس وكشف الحجاب وحصول المسرات ونيل السعادة الحقيقية المتمثلة بسعادة الدنيا والآخرة .إما حب الدنيا فيحجب ذلك كله , مما يؤدي إلى نسيان الله وخسران الآخرة: ((وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين))(2) وفي آية أخرى (( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا... ))(3) وأيضا ((فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا أنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ))(4) وأيضا ((نسوا الله فنسيهم ...))(5). ((إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب))(6). ((ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ))(7). حكمة الشهيد السعيد في محاضرته يؤيدها عرفان الإمام جعفر الصادق (ع) (( قلب المؤمن حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)) لضمان سعادة الدارين .ولهذا بعد ان بين لنا الشهيد ان طريق حب الدنيا هو طريق خسران الدنيا والآخرة أخذته الحسرة متألم على ما جرى للصحابي الجليل القدر عبد الرحمن بن عوف عندما جعل الدنيا نصب عينيه.بعدها يختار الشهيد لنا طريق آخر وهو طريق حب الله واضعا الحديث نصب عينيه ((ليس خيركم من طلب الدنيا وترك الآخرة ولا خيركم من طلب الآخرة وترك الدنيا بل خيركم من طلب من هذه وهذه)) . مع علمه إن هذا الطريق قد سلكه أولياء الله من الرجال والنساء وقد وصلوا. آية الله العظمى الشهيد الصدر ((قدس)) كان يعلم بعدم اختلاف أفراد البشر من حيث النشأة المادية لطبيعة البدن. أما من حيث النشأة الروحية فتختلف أفراد البشر ((إنما أنا بشر مثلكم)) 8 أي إن الرسول من حيث الطبيعة البدنية للنشأة المادية يمتلك ما نملك ولا نمتلك ما يمتلك . أما من حيث الجانب الروحي ( النفس) فقد استطاع الرسول ((ص)) إن يصل إلى درجه قاب قوسين أو أدنى . وهنا يكتمل فهم الحديث الشريف (( لي أوقات مع ربي يطعمني ويشربني)) (( لي أوقات مع ربي لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل)). وكذلك الأمر بالنسبة إلى أولياء الله . فمثلا القديسة مريم ((س)) استطاعت أن تصل إلى درجة تفوق درجة النبي . بحيث يقف إمامها نبي الله زكريا عندما يراها تأكل من ثمار الجنة وهي في عالم الدنيا (( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزق. قال يا مريم أنى لك هذا, قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ))9 . وفي عصرنا هذا وليس بالبعيد عندما كان العلامة الطباطبائي يدرس في النجف حصلت له ولأمثاله كرامات عديدة يمكن التوصل إلى معرفتها بعد البحث في ذلك. ومن هذه الكرامات ما حصل للعلامة في مسجد الكوفة10 عندما كان الأستاذ قاضي يدرّس طلابه دروس أخلاقية في الحضور القلبي خلال الصلاة والإخلاص في الأفعال التي تصدر منهم ليعلمهم استقبال الهامات عالم الغيب. حيث كان لهم هناك غرف خاصة في مسجد الكوفة والسهلة. وفي بعض الوقت يجعل طلابه هناك يقضون الليل في الذكر والدعاء وقراءة القرآن لوحدهم داخل تلك الغرف. وقد ابلغهم انه اذا كانوا منشغلين في ذلك عليهم انه لا يتوجهوا إلى ما يحدث من قبيل رؤية الصور الجميلة او مشاهدة البعض من عالم الغيب. بل عليهم متابعة العمل لأجل الوصول إلى درجات أعلى. فهم دائماً في تنافس في ذلك ولهذا يقول السيد الخميني ((قدس)) ((حسنات الأبرار سيئات المقربين )). وعندما كان العلامة الطباطبائي لوحده في إحدى تلك الغرف في مسجد الكوفة منشغلاً بالذكر وإذا بحورية وبيدها كأس من شراب الجنة وقد جلبته له واتته من جهة اليمين، فأراد العلامة أن يتوجه أليها حينها تذكر نصيحة أستاذه القاضي فاغمض عينيه ولم يتوجه أليها واستمر في الذكر. بعدها أتته من جهة اليسار وبيدها الكأس وقد أرادت التعارف معه فأدار العلامة رأسه عنها عندها انزعجت الحورية وذهبت. وعن هذا المشهد يقول العلامة لحد هذه اللحظات كلما أتذكر انزعاج وأذية الحورية أتأثر بشدة عليها. الأحاديث النبوية (( من أصلح أخرته أصلح الله له دنياه )) (( ومن اصلح ما بينه وبين الله فقد اصلح الله ما بينه وبين الناس )) خير دليل على تأييد الطريق الذي
اختاره لنا الشهيد السعيد (قدس) ولأجل التوغل فيه اكثر لا بد لنا من الجد والمثابرة عليه (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ))11 لأجل الوصول إلى درجة يمكن من خلالها مشاهدة ملكوت السماوات والأرض ((أولم يتفكروا في أنفسهم))12 ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون))13. وكما يقول مولى الموحدين علي (ع) ((أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر)). والأمام الصادق (ع) يقول ((لولا أن الشياطين يحرمون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض)) ولأجل الظفر بالطريق الذي أراده الشهيد لنا لا بد من أمور عملية ونظرية منها. 1- عدم الإعراض عن ذكر الله: (( ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعدا ))14, ((ومن يعرض عن ذكري جعلنا له عيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى))15. 2- التوجه للعلم والعمل به: ((من سلك طريقاً في العلم سلك الله له طريقاً في الجنة)) ((من مات وميراثه الدفاتر والمحابر وجبت له الجنة)) ((من عمل بما علم أورثه الله علم ما يلم يعلم)) 3- التوجه إلى معرفة الله (جل جلاله) : يقول الإمام الصادق (ع) : ((لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكانت دنياهم اقل عندهم مما يطأون بأرجلهم ولتنعموا بمعرفة الله. وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. أن معرفة الله تعالى انس من كل وحشة وصاحب من كل وحدة ونور من كل ظلمة وقوة من كل ضعف وشفاء من كل سقم ... . 4- الابتعاد عن جميع الأمراض النفسية لأنها تعظم مع عظمة النفس حتى تؤدي بصاحبها إلى الخلود في جهنم. وأخطر ما في الأمراض النفسية الكذب الذي يؤدي إلى ظلم الناس. والظلم قرين الشرك (( يا بني لا تشرك إن الشرك لظلم عظيم))16 (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء))17. 5. كثرة الاستغفار : (( فقلت استغفروا ربكم انه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً))18.
https://telegram.me/buratha