علي بابان وزير التخطيط السابق
الاقتصاد العراقي ... الفوضى ذات التكلفة العالية..!!ليس في مقدور أحد إنكار أن العراق ومنذ عام 2003م ولحد الأن يعيش حالة فوضى شاملة، إجتماعية أولا ثم سياسية واقتصادية لاحقا، وأنه إذا كان بالإمكان أن نجمل وصف الحالة العراقية بكلمة واحدة فإن لفظة "الفوضى" هي الأجدر بإجمال هذا الوصف، قد نتجادل كثيرا في أسباب تلك الفوضى وما ستؤول إليه لكن ما يهمنا في هذه السطور هو تحديد "مؤشرات الفوضى الإقتصادية" وبيان نتائجها الخطيرة على مستقبل الإنسان العراقي.تصاعدت في الأسابيع الأخيرة النذر والشواهد على أن الاقتصاد العراقي يتجه نحو مزيد من الفوضى وربما كان حدث إقرار الموازنة العامة للدولة وما اثاره من نقاشات وما برز خلاله من طروحات لبعض القوى السياسية هو الذي سلط الضوء على مظاهر ومؤشرات الفوضى المتصاعدة هذه، ويبدو المشهد وكأن إدارة الاقتصاد العراقي باتت مستسلمة لصورة من صور الفوضى الشاملة التي يتبدد معها كل أمال العراقيين في تحسين أوضاعهم ونجاتهم من "بحور الحرمان" التي تكاد تغرقهم والتي باتت تتسع يوما بعد يوم لتشمل المساحة الأكبر من المجتمع العراقي.من يتأمل في الوضع العراقي الراهن يميل إلى الاستنتاج بأن العراق يتجه لإغلاق ملف التنمية وطي صفحاته واستبدال شعار "التنمية الشاملة" بشعار "توزيع الأموال" ...!!! ، وللحقيقة فإن تاريخ التنمية في العراق يظهر "محاولات خجولة" في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعلينا أن نسجل هنا تجربة مجلس الإعمار الناجحة في خمسينيات ذلك القرن، تلك التجربة التي كان يمكن أن تغير وجه العراق الاقتصادي لو قدر لها الاستمرار...علينا بادئ ذي بدء أن نعيد التذكير بحقيقة أنه لا يمكن قيادة عملية تنمية ناجحة في ظل بيئة سياسية واجتماعية مضطربة ولا يوجد شاهد واحد على عكس ذلك، كما أنه لا يمكن تحقيق أي تنمية في ظل ثقافة سياسية واجتماعية متخلفة.هنالك الكثير من الشواهد على سيادة الفوضى في الاقتصاد العراقي، والتوجه "العملي" لإغلاق ملف التنمية، وسأعدد أهمها باختصار مخصصا مساحة أكبر لمناقشة التوجه نحو إعطاء المزيد من الصلاحيات والأموال للحكومات المحلية لأنها باتت تستأثر بحصة كبيرة من النقاشات العامة، ولأن البعض صار يرى في هذا التوجه "المنقذ" من الأوضاع الإدارية والإقتصادية القائمة وما يعتريها من علل فضلا عن أن الموضوع صار يضغط على القرار السياسي والحكومي بقوة.مؤشرات ودلائللدينا في العراق مشكلة " فقدان المنظور الاستراتيجي" ، ويمكن القول أن هذه المعضلة تلازم الدولة العراقية منذ تأسيسها وأنها لا تقتصر على الاقتصاد فحسب، هذا "المنظور الاستراتيجي" لا يولد إلا من رحم دولة مستقرة بمؤسساتها ونظامها السياسي وكلما اقتربت الدولة في العراق من هذا الوصف كلما برزت فيها الحاجة لإرساء هذا المنظور وكلما حاصرتها المشاكل والصراعات غاب عنها.الدولة العراقية اليوم تبدو كسفينة تائهة تعطلت فيها أجهزة تحديد المواقع، فهي لا تدري أن كانت تسير في وجهتها الصحيحة أم تولي وجهها عكس المطلوب ، ولا تعلم إن كانت ستصطدم بالصخور أم ستصل مرفأها بسلام ...إذا نقلنا هذا التوصيف للاقتصاد نجد إهداراً للمال ... وللفرصة... ومشاريع لا رابط بينها ولا جامع... وموازنات سنوية تغيب عنها صفتي الاستمرارية والتراكم.. استراتيجيات وسياسات وخطط لا تتعدى الأوراق التي كتبت عليها مع تغيير دائم ومستمر فيها مما يفقدها أي مصداقية...لم نعد نفتقد المنظور الاستراتيجي بعيد المدى فحسب ولكننا نفتقد حتى السياسات السنوية التي يمكن لها أن توجه قطاعا معينا...الدعوة إلى توزيع الأموال على المواطنين هي دليل أخر على سيادة الفوضى في المشهد الاقتصادي العراقي ، باعتبارها نابعة من الفشل الحكومي الواضح في بناء الاقتصاد وتقديم الخدمات ، لكن الظواهر يجب أن توصف بوصفها الحقيقي لا ان يتم "الهروب إلى الأمام" بتقديم طروحات هي من قبيل "وداوني بالتي كانت هي الداء" ، وعلينا أن نقر بوجود الفشل الحكومي ونسرع بعلاجه بجدية لا أن نقدم مثل هذه المقترحات العقيمة التي لا يمكن الا أن تزيد الوضع الاقتصادي سوءا وتعزز فكرة المجتمع الريعي غير المنتج.بالطبع لا يمكن لنا هنا أن نهمل "السعي لكسب الشعبية" لدى بعض الفئات السياسية، إن هذا المسعى مشروع تماما لأية قوة سياسية ولكن في أخر المطاف هنالك مصالح وطنية ينبغي أن تحكم عمل كل القوى، ولدينا العديد من الشواهد من " الديموقراطيات الناضجة" حيث تصطف المعارضة إلى جانب الحكومة لدعم برامج إنقاذ اقتصادية ودون أن تسعى لكسب المزيد من النقاط وتحصيل الشعبية استغلالا لوضع متأزم.صور من الفوضى الماليةالفوضى المالية هي جزء من الفوضى الاقتصادية بل لعلها من أخطر صورها ، فهي الباب الواسع الذي يتسلل منه الفساد، وهي التي تلخص سوء الأداء الاقتصادي والفشل الحكومي..هنا لدينا ايضا صور عديدة ، فهنالك الانفاق خارج مشاريع الموازنة العامة الذي اتسع نطاقه بشكل ملفت للنظر بحيث باتت تظهر مليارات الدولارات التي استلفتها الحكومة والتي يراد اطفائها، ان هذا الإنفاق يطيح بمصداقية الأساس الذي تقوم عليها الموازنة الحكومية وهو "ضبط الإنفاق الحكومي في مشاريع و أولويات متفق عليها سلفا" كما أنه يطيح بمفهوم التنمية والتخطيط الاقتصادي التي يبدو أنها أصبحت من مخلفات الماضي في العراق.الوجه الأخر الخطير للفوضى المالية هو تمويل الموازنات بالعجز، وفي الواقع وبعض النظر عن سلامة المبدأ من الناحيتين الاقتصادية والمالية فإن ما يجري هو تغطية القصور في التمويل وشحة الموارد تحت عنوان العجز في الموازنة، وهنا أيضا يجب أن نسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، فهذه الأموال المدرجة في الموازنة ليست أموالا حقيقية بل هي أموال مستدانة من الأجيال المقبلة، وهي لعبة خطرة لكن سهولتها أغرت الحكومة العراقية بالإستجابة لمطالب القوى السياسية في البرلمان، فما عليها سوى أن تضخم مبلغ العجز لتكون كل قوى البرلمان راضية ومرتاحة وتصوت لتمرير الميزانية بعد أن تعود إلى جماهيرها معلنة "الانتصار العظيم" بأنها قد نجحت في تحقيق ما تريد إدراجه في الموازنة.هنالك ايضا اشكاليات عملية مرتبطة بمسألة العجز في الموازنة، فالذي يحدث أن الوزرات وجهات الصرف لا تنفذ كل مشاريعها ولا تستنفذ كل موازناتها ، فيعود جزء كبير إلى الموازنة ولا يتحقق العجز من الناحية العملية وهذا قد يغري الجهات المالية بالتساهل في موضوع العجز ولكنه من ناحية أخرى يؤشر إلى ضعف الأداء وتواضع نسب التنفيذ في المنهاج الإستثماري والمشاريع الحكومية وتلكؤها مما يعني أنه حتى هذه المشاريع التي لا يجمعها منظور واحد ولا خطة متناسقة لا تجد طريقها إلى التنفيذ كما يجب.وتثور إشكالية أخرى بسبب العجز مع أقليم كردستان فالجهات الحكومية خارج الأقليم تعيد مالم يتم استخدامه من الأموال في أخر العام لكن الأقليم لا يعيد أية مبالغ ، وعندما توضع ميزانية العام القادم يستوفي الأقليم حصة ألــ 17% كاملة. وتتجدد المشكلة عاما بعد عام ودون أن يستطيع المركز إيجاد مقاربة تضمن معالجة الإختلال وعدم العدالة في هذا المجال.في موازنة هذا العام لدينا تقديرات متفاوتة للعجز إذ تطرح الجهات الرسمية رقما وتطرح جهات برلمانية ومالية تقديرات أكبر، وهناك فرق كبير يصعب فهمه وتفسيره وهذا إن دل على شيئ فيدل على "الفقر النظري" في فهم العجز وطرق تقديره كما يدل على رغبة بعض الجهات في تصغير رقم العجز لتمرير الميزانية واخفاء هذا الجانب السلبي فيها ، ومن المؤسف أن اعتراض البنك الدولي على رقم العجز قد قاد إلى خفض مقترح للموازنة الاستثمارية بنسبة 15%، ولم يمس الموازنة التشغيلية ولسبب بسيط هو أن الأخيرة والتي تلتهم الشطر الأعظم من الموازنة لا يستطيع أحد المساس بها ، فيما يستطيع المشرعون إلغاء العديد من المشاريع من الموازنة الإستثمارية دون صعوبات تواجههم في هذا الجانب.يتذرع البعض بإرتفاع سعر النفط في السوق عما هو مقدر في الموازنة (76 دولارا فيما هو مقيم بالسوق حاليا بسعر يزيد عن المائة دولار) ، مما يعني أن العجز قد لا يكون حقيقيا بل أن فائضا يمكن أن يتحقق ليتحول إلى "موازنة تكميلية" ، وهذا التبرير سليم من الناحية النظرية لكنه يهمل تقلبات سوق النفط المحتملة والمخاطر العديدة والمتعاظمة التي يمكن ان يتعرض لها تصدير النفط العراقي بسبب التوتر في الخليج واحتمال نشوب صراع بين ايران والدول الغربية.
https://telegram.me/buratha