بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:منذ التأسيس وحتى التنازع المعاصر كشفت حركة التاريخ عن تغييب منهجي للعقل السياسي العراقي عبر استلاب الوعي الفردي والجمعي للمجتمع العراقي واعتماد الفكر السياسي على الشخصنة والرؤية الديماغوجية في تشكيل الشخصية الحاكمة، مما ادى الى ارتباط الاحزاب والمناهج الفكرية بالافراد دون ظهور يكون أي دور لكل العناصر المشاركة في الفعل وكأن الزمان والمكان ارتبطا بتلك الشخصية حتى لكأن الزمن من منظور هؤلاء توقف عند حدود ارادة الحاكم في تلك المرحلة.
من هنا لم يتمكن الملك او الحاكم من تجاوز آنية المرحلة والقاء نظرة على المستقبل على إعتبار إن الزمان والمكان والتفاعلات التاريخية وكل تلك العوامل المساعدة في تشكيل الحدث التاريخي من منظور الحاكم تبقى منوطة بوجوده على رأس السلطة، وفي هذا السلوك الغاء كامل لحركة التاريخ وتقييدها بشخص الحاكم الذي يبقى أسيرا لرغبات نرجسيته فيصبح المستقبل عندئذ غير ممكن ما لم يحقق استمرارية هذا الحاكم او الملك في الامساك بكل خيوط البقاء والاستمرار حتى وإن أدى ذلك الى التجاوز على الدستور (هذا فيما إذا كان الدستور يمثل فعلا إرادة الشعب).
في ضوء هذا المنظور سنحاول في هذه الدراسة مناقشة اصرار السلطات الحاكمة على تغييب الوعي من خلال خلق فوضى سياسية لعل ابرز ملامحها هو هذا التنازع التنازع اللاعقلاني والاغراق في الذاتية.
إشكاليات غياب الوعي الفردي:لعل من أشد إشكاليات الواقع السياسي العراقي هو إصرار مدعي السياسة على تغييب وعي الافراد مما سيؤدي الى غياب الوعي الجمعي بحقيقة ما يجري، وبالتالي يمكن للسياسيين الاستمرار، فبين الاعلام الى التصريحات المتناقضة الى تبني مشاريع فاشلة مرورا بالاعلان عن تحالفات هنا وهناك كل ذلك يدفع الى ابقاء الافراد في حالة من التناقض والوهم في استجلاء حقيقة الوضع السياسي، ففي كل مرة يشعر الافراد الى ان الساسة اقتربوا من وضع الحلول يعمل هؤلاء على ايجاد سلسلة من التناقضات تؤدي الى تقويض الافكار وبالتالي خلق جو من التردد.
ساعد استغلال غياب الوعي على استمرار الساسة في خلق حالة الفوضى وأيجاد التناقض مما يعني ركود كامل في الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما يطرح تساؤلا مهما حول حقيقة جدية هؤلاء المسمون بالساسة في بناء المجتمع وتقديم الخدمات؟ فاكثر ما يشكو منه الافراد حاليا هو غياب الخدمات بل انعدامها كليا في ضوء الصراع السياسي الحالي وهذا نتاج لأزمة الوعي التي ساعد الساسة انفسهم على خلقها والتأسيس لاستمرارها حتى وأن أدى ذلك الى ضياع الحقوق وتفتيت بقايا البناء الاجتماعي بعد ان تم نقل هذه التناقضات الى مناهج التعليم وقواعد التنشئة سواء كانت علمية تنظيرية أو عقائدية دينية، وذلك عبر انشاء اجيال تعتاش على التناقضات السياسية والاجتماعية والفكرية مما سيؤدي الى خلق وعي متدني لا يختلف كثيرا عن المناهج التي تبناها حزب البعث عندما قال المقبور مرة: (نكسب الشباب لنضمن المستقبل). وقد رأينا كيف استطاع خلق جيل متناقض وهامشي ودموي لا ينتمي الى حقيقة المجتمع العراقي ولا يتبنى قيما أو مثل عليا. ومن هنا ندرك أي مستقبل عناه الطاغية وقتئذ.
الاغراق في النرجسية:لا تتشكل فكرة الديماغوجية من الفعل الذاتي بقدر ما تتشكل من غياب الوعي الجمعي باعتبار ان الشخصية الديماغوجية يمثلها:(القائد الذي يبشر بمباديء يعلم انها باطلة ليقود بها مجتمعا يفتقد للوعي)هذه الرؤية في سهولة قيادة المجتمعات ذات الوعي المتدني ساعدت على الدوام في خلق الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ ليس ابتداء من الفرعون المعاصر لموسى عليه السلام، ولا انتهاء بصدام او كل اؤلئك الملوك والحكام المعاصرين، حيث تحولت هذه النزعة من حالة نرجسية الى اقسار المجتمع لتبني فكرة تأليه الحاكم، وحتى في المجتمعات التي تدعي الديمقراطية تمثلت الفكرة بتأليه المنهج كما يحاول الغرب تسويقه باعتباره نظام ليبرالي ديمقراطي، وهذا بالتأكيد لا يكون إلا إذا كان هذا المجتمع خاضعا وغير متجانس نفسيا نتيجة لتردي مستويات الوعي الجمعي باعتبار ان الحكام هم نتاج لعقلية المجتمع ولهذا قيل: " كما أنتم يولى عليكم ".
فالاغراق في نرجسية النظام لا يختلف كثيرا عن الاغراق في نرجسية الحاكم، لكن الادهى ان يتحول الحاكم الى كونه الممثل الوحيد للنظام في حالة من التماهي والاستغراق الكامل (أنا الدولة والدولة أنا).
المثل العليا والخروج من سلبية التناقض: تسعى السلطات الى تفشي قيم منحطة للابقاء على مستويات متدنية من الوعي لتحقيق تباين في المواقف العقلانية بينها وبين الافراد، ومن اجل هذا يتم تقويض الرؤى المتنورة لصالح الجمود العقلي، ولعل هذه الاشكالية مثلت على الدوام عقبة في وجه الاصلاحيين الحقيقيين في قبال الاصلاح المزيف والمرتبط بعقلية النظام ومثله المتدنية.
فبينما ارادت الرسالات السماوية ان يكون الانسان صانعا حقيقيا للتاريخ ومطبقا للمثل العليا، حاولت السلطات إحباط الحركة الحقيقية لخلافة الانسان في الارض عن طريق نشر مثل متدنية لتحل محل المثل العليا، بل انها ومن خلال نشر مفاهيم الفوضى نراها تناقض المفهوم الالهي بلا عبثية الخلق إذ ان الله يؤكد على قضية اللاعبثية في قوله:" أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون ". المؤمنون/115.فالعبثية السياسية التي هي جانب من اشكال العبث البشري الناتج عن انحرافه عن المثل العليا، إنما هي نتاج لتجسيد الرؤية النرجسية وتغليب الذاتية على الوعي الاجتماعي مما يوجد تناقض مستمر بين السياسي والمجتمع حيث يتكرس في مفاهيم السياسة العراقية الحالية تناقض واضح بين طروحات السياسيين وما يفترض ان يمثلوه من قيم عليا، هذا التناقض ادى الى استمرار الصراع، فبينما يقدم الساسة انفسهم كمصلحين وكأصحاب مواقف انسانية ومشاريع عمليه، نرى ان سلوكهم وطبيعة صراعاتهم في الحفاظ على مصالحهم تقف على النقيض من تلك الصورة التي تم تقديمها عبر وسائل إعلام خاصة ومدفوعة تحقق طروحاتهم، وبالتالي فان اي تأخير في حصول المجتمع على الخدمات التي يفترض الحصول عليها كحقوق اجتماعية وقانونية دستورية يقع على عاتق السلطات الحاكمة، فحقوق الافراد مقدمة على رغبات الحكام وهي تكتسب شرعيتها مو الموقف التشريعي من الانسان.
فمن هنا يصبح من الضرورة ايجاد سبل للخروج من ضحالة التفكير السلبي الذي اوقعت فيه السلطة ابناء الشعب، كما إن على الامة أن تسعى بنفسها لتحصيل حقوقها ومن اجل ذلك تحتاج الامة الى تغيير جذري يلقي بعيدا بحكام السلطة خارج دائرة الحكم ويلغي الشهوانية الحزبية والتفرد والشخصنة على ان يكون هذا التغيير لصالح المثل العليا والقيم الانسانية التي رسمتها الرسالات السماوية كحركات اصلاحية من منظور الهي.
هل يمكن تجاوز الازمة؟في تاريخ السلطات العربية الحاكمة لا يمكن فصل نرجسية الحكام عن سوء تطبيق النظريات المستوردة (الليبرالية الديمقراطية وفق المنظور الامريكي وبقايا الاشتراكية التي تتشبث بها بعض الحكومات كما في ليبيا مثلا)، فالسلطات الحاكمة في جميع البلدان العربية تفتقر الى الابداع الفكري من جانب وترفض ان يتم التنظير لها (المشروع الاسلامي الحقيقي) من جانب آخر، فهي إما ان تغرق في الاتجاه الليبرالي أو الاشتراكي الى حد انهم يصبحون (ملكيين اكثر من الملك) او انهم يتلاعبون بالطروحات الالهية للابقاء على ما يتناسب وطموحاتهم فقط مقابل رفض المشروع الالهي ككل، بمعنى يتم إستغلال الموقف الديني لتمرير المشاريع السياسية دون الاهتمام باصالة الفكر الديني او القاء ضوء على المشروع الالهي في السلطة والسبب في ذلك هو فقدان هؤلاء الحكام للرؤية المستقلة ولعدم قدرتهم على ان يكونوا متجردين من مواقفهم الحزبية الضيقة بعد ان صار كل واحد منهم ممثلا مطلقا للحزب، أو انه هو ذاته صار الحزب نفسه وهذا كما ذكرنا قمة الانحدار في الرؤية الذاتية باعتباره يمثل اقصى حدود النرجسية السياسية.
فالازمة إذن هي أزمة العلاقة بين الحاكم والنموذج الالهي، فعندما يريد الحاكم ان يحتل موقع النموذج الالهي وهو غير مؤهل باعتباره لا يحمل الصفات التي ارادها الله للحاكم، فانما يصنع نوعا من التناقض الفكري حيث يريد ان يحتل المزيف محل الحقيقي مما يزيد من التباعد بين الانسان وتحقيق معايير المثل العليا.
من هنا نجد فشل النظرية الليبرالية في فهم حقيقة حاجيات الانسان باعتبار انها لا تقدم حلولا مستمرة أو دائمة بل مجرد ردات فعل للاحداث، وإن عدم إدراك هذه الفكرة او التجاوز عليها من قبل الحكام والسياسيين العرب المعاصرين انما يخلق تناقضا في تحقيق العدالة الاجتماعية بعد ان يتم التركيز على شخصية الحاكم للتعويض عن الفشل في تطبيق النظريات المستوردة.
وهكذا لا يصبح امام الحاكم إلا اللجوء الى الفكر الديني وهو في هذا الحال سيكتشف انه خارج معايير الفكر الديني الحقيقي فيلجأ من جديد الى تشويه طروحات الرسالة السماوية عبر تفسيرات ذاتية لا ترتكز ألى القيم الالهية فيعود من جديد الى حالى التناقض.
في الخاتمة:إن السياسة العربية عامة والعراقية خاصة ابعد ما تكون عن تحقيق امنيات وحاجيات الامة، فلجوء السياسي الى نرجسيته في تفسير حركة التاريخ يحجم الفعل الحقيقي للانسانية ويقيده بفعل السياسي نفسه وبالتالي يحول دون تقدم الامة بعد ان يتم تقويض مشروعها التحرري وتحويله لمشروع ذاتي، ونراه من جانب آخر يناقض صيرورة الامة واستمرارها.
إن الابقاء على حالة الازمة سيخلق بالتالي رغبة شعبية للخلاص وهذه طبيعة المجتمعات في صراعها من اجل التحرر، فما كان مشروعا تحرريا حولته السلطة الى حكم دكتاتوري وبالتالي يصبح لزاما على الامة ان تبحث عن مشروع تحرري جديد يختلف في معاييره عن الطروحات السابقة.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن31 / تموز / 2010
https://telegram.me/buratha