قبل حوالي ثمانية شهور، اتخذ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني جملة قرارات وإجراءات للحد من ارتفاع قيمة الدولار الأميركي في مقابل الدينار العراقي في الأسواق العراقية، ومنع تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلد نتيجة ذلك، وما يمكن أن يترتب على ذلك الارتفاع من تبعات سياسية تقوّض الاستقرار وتعيد مشهد الارتباك والاضطراب الى الشارع العراقي. ومن بين القرارات والإجراءات التي اتخذها السوداني، إعفاء محافظ البنك المركزي العراقي مصطفى غالب مخيف وتعيين محافظ البنك السابق علي العلاق، وإحالة المدير العام للمصرف العراقي للتجارة (TBI) والذي يُعَدّ أحد أكبر المصارف الحكومية سالم الجلبي على التقاعد وتعيين الخبير المالي بلال الحمداني بدلاً منه، إلى جانب جملة إجراءات أقرّها مجلس الوزراء بالإجماع تتعلق بتسهيل التعاملات المصرفية وتسريعها وزيادة عدد منافذ بيع العملة الصعبة (الدولار) للمواطنين بأسعار مدعومة، وتقديم التسهيلات المالية والمصرفية إلى التجّار ولا سيما الصغار منهم، وتقليص الحلقات الإدارية ذات الطابع البيروقراطي الرتيب والتي تتيح عمليات التلاعب والفساد والاحتكار.
وكان من الطبيعي في حينه أن تتوجه بعض أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة الأميركية، لأنها منذ إلاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، باتت تتحكّم في مختلف مفاصل الدولة العراقية وخصوصاً المالية والاقتصادية منها. ولعلّ الدليل الأبرز والأوضح على ذلك هو أنه منذ عشرين عاماً، تُوْدَع عائدات النفط العراقي في البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في حساب خاص أُطلق عليه صندوق تنمية العراق (DFI)، وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي المرقَّم 1483، الصادر في الثاني والعشرين من أيار/مايو 2003، وكانت تدفع منه التعويضات المستحقة لدولة الكويت حتى أواخر عام 2021، وعموم التحويلات وعمليات الإنفاق المالية منه تخضع لإشراف الاحتياطي الفيدرالي ورقابته.
وقبل شهر ونصف تقريبًا، أدلى رئيس تحالف الفتح هادي العامري بتصريح بدا مفاجئًا قال فيه "من غير المعقول أن يتحكّم موظف في الخزانة الأميركية بأموال العراق.. وعلى العراقيين أن يقفوا موقفًا موحَّدًا من أجل استقلالهم الاقتصادي، بعد الاستقرار الذي يشهده العراق حاليا، أمنيًا وسياسيًا". وقد جاءت تصريحات رئيس تحالف "الفتح" في وقت كانت فيه قضية توقف امدادات ضخ الغاز الايراني الى العراق وتراجع تجهيز الطاقة الكهربائية في ظل الارتفاع الحاد بدرجات الحرارة قد ألقت بظلالها الثقيلة على الشارع العراقي والأوساط السياسية المختلفة.
ومثلما ظلّ الملف الأمني العراقي خاضعاً ومرتهناً لحسابات واشنطن السياسية، فإن الملف المالي بقي هو الآخر كذلك، ولم تكن واشنطن بعيدة عن الصعود المفاجئ للدولار قبل بضعة شهور، وهو ما أكده النائب في البرلمان البرلماني وعضو اللجنة المالية مصطفى سند، حينما كشف أن "صعود الدولار هو بسبب إيقاف تحويل استحقاق العراق من الدولار من جانب الفيدرالي الأميركي، من أجل الابتزاز السياسي".
وفي هذا السياق، فإن وزارة الخزانة الاميركية فرضت قبل عدة أعوام حزمة عقوبات على مصارف أهلية عراقية تحت ذريعة تقديمها تسهيلات إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وفق زعمها، علماً بأن عدداً من مُلّاك تلك المصارف ومديريها يرتبطون بعلاقات جيدة بالأوساط والمحافل السياسية الأميركية. هذا في الوقت الذي لا تتوقف فيه واشنطن عن تكرار المزاعم بأنها تريد مساعدة العراق على وضع حد لعمليات التهريب والفساد عبر بناء نظام مصرفي رصين، علما أنه كان لها الدور الأكبر في تبديد مليارات الدولارات من أموال العراق، بحيث إنها كانت تعلم جيداً بالجهات التي تقف وراء ذلك، وتعلم جيداً بحركة الأموال المنهوبة ووسائل غسلها، إلّا أنها غالبًا ما كانت تلتزم الصمت ولا تحرك ساكناً، لأن ذلك لم يكن يتعارض مع حساباتها ومصالحها، من جانب، ولا يعود، من جانب آخر، بالنفع على خصومها وأعدائها في المنطقة.
وربما لم يذهب بعيدًا من قال "إن واشنطن تحاول ابتزاز السوداني من خلال العمل على إسقاط حكومته باستخدام أزمة الدولار في حال لم يتعاون مع الأهداف الأميركية في العراق، وهي تقول له باختصار إننا سنُسقط الحكومة في حال لم تعمل معنا ضد إيران".
وكان متوقعًا أن تنتهي أو تتقلص الهيمنة الأميركية على مقدرات الاقتصاد والمال العراقي بعد خروج العراق من البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة أواخر شهر شباط-فبراير من العام الماضي 2022، الا أن شيئًا لم يتغير من الناحية الواقعية، فوزارة الخزانة الاميركية ومعها بنك الاحتياطي الفيدرالي بقيا يتحكمان بكل الخيوط من خلال ما يسمى بصندوق تنمية العراق DFI، ولعل تمديد حالة الطوارئ حيال العراق من قبل الرئيس الاميركي جو بايدن منتصف شهر ايار-مايو الماضي، تحت ذريعة بقاء التهديدات للامن القومي الاميركي قائمة، يؤشر الى أن واشنطن لا تنوي ولا تفكر برفع يدها عن العراق، علمًا بأن تمديد حالة الطوارئ لا يقتصر على الجوانب الأمنية المتعلقة بالتهديدات والتحديات الارهابية، وانما يشمل الجوانب الاقتصادية أيضًا.
ومن الواضح أن هناك رأيًا عراقيًا عامًا، وتوجهًا سياسيًا واسعًا لإنهاء الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العراقي، وقد تجلى ذلك بوضوح كبير عبر الترحيب والارتياح السياسي والشعبي بالاتفاق الذي أبرمته الحكومة العراقية مع نظيرتها الايرانية في الحادي عشر من شهر تموز-يوليو الماضي، والمتضمن مقايضة الغاز الايراني بالنفط الخام العراقي، وذلك للتخلص من اشكالية تحويل المستحقات المالية لايران من العراق.
هذه الخطوة الجريئة والشجاعة والصحيحة، التي تصب في مصلحة كلا الطرفين العراقي والايراني، ينبغي أن تكون مقدمة لخطوات اخرى في هذا السياق، حتى تتفكك قبضة واشنطن على الاقتصاد العراقي، لأنه من دون الاستقلال والتحرر الاقتصادي الحقيقي تبقى السيادة الوطنية منقوصة ومجتزأة، وبالتالي يبقى العراق رهينة بيد الاميركيين حتى وإن اخرجوا كل قواتهم العسكرية منه.
https://telegram.me/buratha