د.أمل الأسدي ||
كانت نخلةً شربت من دجلة حتی أحبها النهر، واعتادت أن تطرز الأرضَ بخطوات الشوق حتی تصل الحضرة الكاظمية، فمن يسكن قرب الإمام يشم عبق الجاذبية، فتركض الروح إلی ضريحه، كبرت " ميسون" ومازالت أمها تقنع نفسها أن رؤيتها قد تحققت، تلك الرؤية الجميلة الغريبة، فقد رأتها حين كانت طفلة، أنها تمشي علی ماء دجلة وتكبر وتكبر ثم تطير كحورية في السماء!
وبقيت هذه الرؤية مستيقظة في ذاكرتها!!
(ميسون الأسدي) تلك الجميلة الشمسية، هدية السماء، خُلقٌ وذوقٌ ومنطقٌ، من مواليد1965م، تحب الشعر كثيرا، وتكلل هذا الحب بدخولها كلية الآداب، قسم اللغة العربية.
في عهد النظام العفلـقي كانت أحلامنا صعبةً مستصعبة، وكل الحكايات مرتجفة، فهو نظام أمـوي يكره الانتماء الی الأب الحنون(علي بن أبي طالب) ويكره العلم الذي يمتاز به أبناء علي وبناته!! فجعل النخبة المميزة منهم نصب عينيه!!
وهم يمشون والتسليم لله يقودوهم، لايبالون به!!
(ميسون) وردة كلية الآداب خطبها(حسام الصريفي) الطبيب الجنوبي، فثمة تلاق رتبه الله ليجمع بيهما، ولكن... كما قلت لكم: كل الحكايات مرتجفة!!
اعتقلوها واعتقلواخطيبها وأخته، فالأميون لايفرقون بين رجل وامرأة كان ذلك عام 1984م!!
أضحت (ميسون ) سجينة وأي سجينة؟
إيمانٌ وصلاةٌ وتسليم وشوق للشهادة، حكموها بالإعدام ومازالت شامخة، فلم تنكسر حين عذبوها وعلقوها من شعرها، وانهالوا ضربا علی جسدها؛ فهل ستنكسر الآن وقد اقترب اللقاء؟!
وقد يُسمع صوتها وهي تستذكر الرسول في يوم رحيله وتشكو إليه حالها وحال أخواتها السجينات المعـذبات، فوجهها النوراني يبعث السكينة، وصلابتها باتت مصدر قوةٍ للجميع، فلا تُری إلا وهي عابدة مناجية!!
ـ محطة الرحيل:
إنه يوم الرحيل، ولكلّ رحيلٍ زينب!!
نعم، فالسيدة زينب(ع) حاضرة في مشاهد الرحيل التي فُرضت علينا، فنحن نستحضرها بتلقائية؛ لذا تحول رحيل الوردة إلی مهرجان خطابي إيماني، فأخذت توصي أخواتها بالصبر والثبات، وتذكرهن بزوال الدنيا، وعيون الرقيبة(أم سفيان) تنهش الزمن... ثم انتشرت كلماتها كرذاذ عطرٍ سماوي، انتشرت فعمّ البياض وهي مازالت تنشد:
النورُ ملءُ عيوني
والحور ملكُ يميني
وكــالمــــلاك أُغنّي
لجــــنّةٍ وعــيونِ
بعدها خرجت الی سيارة المـوت البعـ.ثي وهي تردد ماقالته مولاتنا زينب(ع):
"فَمَهْلًا مَهْلًا لَا تَطِشْ جَهْلًا! أَ نَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ"
مضت كنخلةٍ لم يصل إليها يوما موسم الانحناء، وعيون الضباع ما زالت تترقب، فأخبروا مبعوث القصر الجمهوري بشموخها وخطابها، فقرر أن يغير حكمها الی الإعدام بالكرسي الكهربائي!!
الله أكبر، ساعتان والكهرباء تنفض جسدها، طلبت قبل ذلك قليلا من الماء، فأراد قوم يزيد مقايضتها: الماء بمدح الرئيس القائد، فأبت ذلك!!
ومازال موتها البطيء يبكي الجدران ولم يبك قلوب الجبابرة!! جسدها الناعم تحول الی خشبة صفراء!!
وعيونها الناعسة ترنو إلی السماء مستعجلة!!
متی الرحيل؟ متی اللقاء؟
أين حسام؟ زوجها وعهدها الأبدي وحبها الخالد!
حسام سيُعدم الآن!!
كل الحكايات لم تكتمل!!
(ميسون) أول وردةٍ عراقية مسلمة، يغتالون أنفاسها بكرسي كهربائي!!
ميسون... ميسون..
حسام... حسام(١)
وربما كان الصوت الخفي يتمتم خائفا حزينا:
يـمـه ذكـريـنـي مـن تـمـر زفـة شـباب
مـن الـعـرس مـحـروم ... حـنتي دم المصاب
شــمــعـة شـبـابـي مـن يـطـفـوهـا
حـنـتـي دمـي والچـفـن ذاري الـتـراب
يـمـه ذكـريـنـي مـن تـمـر زفـة شـباب
وهكذا حلّقت وردتنا بلا أجنحة!
ـــــــــــــــــــــــــــ
١ـ لمزيد من التفاصيل مراجعة كتاب: مذكرات سجينة، فاطمة العراقي ـ علي العراقي، و رواية آخر أساطير الحب، كمال السيد.
ـــــــ
https://telegram.me/buratha