عادل الجبوري ||
لعل المعروف للكثيرين، لا سيما أرباب السياسة والمتابعين والمراقبين لأحداثها وتفاعلاتها المختلفة، أن مراكز الأبحاث والتفكير الأميركية (Think Tank)، تضطلع بأدوار محورية مهمة في صناعة القرار وصياغة ورسم استراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية، في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وأن معظم -إن لم يكن جميع- تلك المراكز تدار من قبل شخصيات سياسية أو عسكرية أو أمنية كانت قد شغلت مواقع قيادية متقدمة في المؤسسات العليا، فضلًا عن أن الباحثين والكتّاب فيها، هم من النخب القريبة لدوائر صنع القرار، أن لم يكونوا جزءًا منها. وقد يكون معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي تأسس في عام 1985 من قبل لجنة الشؤون العامة الاميركية - الاسرائيلية، المعروفة اختصارا بـ(AIPAC)، وبواسطة السفير الاميركي الاسبق في "تل ابيب" مارتن انديك، خير مثال ومصداق على ذلك.
ويهتم معهد واشنطن من خلال الدراسات والأبحاث والتقارير والمقالات التي يعدها، إلى جانب الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات الفكرية، بمجمل قضايا وملفات الشرق الأوسط، بطريقة ومنهجية تعكس بوضوح توجهات ومواقف ومصالح واشنطن ومعها "تل ابيب". وبما أن العراق تحول بعد سقوط نظام صدام وما طرأ عليه من تحولات ومتغيرات منذ عام 2003، الى ميدان ملتهب بأحداث ووقائع ساخنة دومًا، ناهيك عن كونه أصبح نقطة تقاطع وتضارب مشاريع وأجندات مختلفة، فقد كان من الطبيعي جدًا أن يشغل حيزًا كبيرًا من مساحة اهتمام معهد واشنطن، وكذلك مراكز بحثية أميركية وغربية أخرى.
وهناك اتجاهات محددة وواضحة يتبناها ويروج لها ويركز عليها معهد واشنطن، تتمثل في:
- استهداف القوى والشخصيات الاسلامية - الشيعية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع الجمهورية الاسلامية، والمنسجمة في مواقفها وتوجهاتها مع محور المقاومة.
- التحذير من خطر هيمنة تلك القوى على السلطة، بل وحتى مشاركتها فيها، على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها وأتباعها في المنطقة والعالم.
- تصنيف كل الفصائل المسلحة التابعة أو القريبة من قوى وشخصيات سياسية شيعية، ومعها الحشد الشعبي، على أنها تنظيمات ومجاميع ارهابية يجب القضاء عليها، رغم أنها ساهمت بشكل فاعل ومؤثر في الحرب ضد تنظيم "داعش" الارهابي.
- الدعوات المتواصلة لحل "الحشد الشعبي"، أو في أفضل الأحوال، دمجه في الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية الحكومية، كوزارتي الدفاع والداخلية، تحت ذريعة أن ظروف ومقتضيات انشائه ووجوده انتفت بهزيمة ودحر تنظيم "داعش".
هذه المسائل وغيرها، سطّرها معهد واشنطن حينما تسلم مصطفى الكاظمي مهام رئاسة الوزراء في ايار - مايو من عام 2020 خلفًا لعادل عبد المهدي، من خلال أقلام العديد من الباحثين والكتاب، وأبرزهم "مايكل نايتس"، ذلك الكاتب المثير للجدل وصاحب النهج والأسلوب التحريضي المقيت، الذي غالبًا ما كان يستغل الاضطرابات السياسية والشعبية، كالتظاهرات الاحتجاجية، ليرفع من وتيرة خلط الأوراق، واثارة الفتن، وتأليب الشارع، كجزء من السياسات والمخططات الاميركية والصهيونية لتوجيه مسار الوقائع والاحداث في العراق بالاتجاهات التي تخدم واشنطن و"تل ابيب"، وتزيد الأمور سوءًا والأزمات تفاقمًا.
وبعدما شرع رئيس الوزراء العراقي المكلف محمد شياع السوداني بمهمته بتشكيل الحكومة الجديدة، كتب نايتس في الموقع الالكتروني لمعهد واشنطن، مقالًا تحت عنوان (تقييم الحكومة العراقية الجديدة: مقاييس للحفاظ على المصالح الأمريكية)-21 اكتوبر 2022، ضمّنه جملة من التصورات والمقترحات التي رأى أن السوداني ينبغي أن يأخذ بها اذا أريد لحكومته المرتقبة تجنب خيار السقوط والانهيار، وطرح جملة مخاوف وهواجس فيما لو استمرت أو تنامت هيمنة القوى والفصائل والشخصيات العسكرية والسياسية القريبة من ايران على مقاليد الأمور، وهو طرح في مجمله لا يختلف عن خطابات أصحاب القرار الأميركيين والصهاينة، ناهيك عن كل ذلك، ان مثل ذلك الطرح يندرج تحت خانة التدخل في الشؤون الداخلية، اذ يفتتح نايتس مقاله بالقول "من الضروري أن تراقب واشنطن عن كثب تصرفات القيادة الجديدة وتُلزم بغداد على اتباع معايير قابلة للقياس"... و"من الضروري أن تسعى الحكومة الأمريكية وشركاؤها، بهدوءٍ بل بإصرار، لإجراء انتخابات مبكرة شاملة لإعادة الشرعية إلى العملية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، على جميع أصدقاء العراق مراقبة الحكومة الجديدة بعينٍ ثاقبة لضمان عدم قيام الميليشيات والسياسيين الفاسدين بتحييد التكنوقراطيين، أو شن حملةٍ ضد المسؤولين ذوي الميول الغربية، أو تغطية أعمال الفساد الماضية، أو إطلاق موجة جديدة من "استنزاف الأصول" عبر مؤسسات الدولة. وبعد عدة إنذارات خاطئة، أصبح الحفاظ على علاقة العراق الوثيقة مع الغرب، حقاً على المحكّ في الوقت الحالي، ولا يمكن ضمان استمرار هذه الشراكة إلا من خلال وضع توقعات حازمة"!، حسب زعمه.
ولعل هذا مؤشر واضح على أن واشنطن تبيّت لمخطط افشال حكومة السوداني المرتقبة واسقاطها في حال لم تسر وتعمل وفق الرؤية الأميركية، وتفتح جبهة المواجهة والعداء مع خصوم واشنطن، وبالتالي تكون أداة بيد الأخيرة. بعبارة أخرى، يمكن أن يفهم، أن واشنطن سوف تعمل على اسقاط حكومة السوداني كما فعلت مع حكومة عبد المهدي.
ويدّعي معهد واشنطن أن "العودة إلى مسار عامَي 2018 و2019 ستحمل الأثر المدمّر نفسه على الصعيد المحلي. فقد تَسبب هذا النهج في النهاية باندلاع انتفاضاتٍ شعبية واسعة النطاق ضد الحكومة الخاضعة للميليشيات، وحتى أنه اجتذب المؤسسة الدينية العراقية. وقد يكون السوداني ودوداً وقادراً، ولكن علينا أن لا ننسى أن عبد المهدي كان كذلك أيضاً عندما استلم السلطة، قبل أن يسلّم زمام الأمور إلى وكلاء إيران دون تردّد"، على تعبيره.
لا شك أن مثل ذلك الخطاب المشحون بالتخويف والتخوين والتزييف والتسقيط، يؤكد ويعكس حقيقة وطبيعة التفكير الاميركي في كل المراحل، ويمثل السمة العامة والدائمة للسياسات العدوانية التخريبية الأميركية. ولسان حال ساسة واشنطن يقول للسوداني (اذا لم تفعل ما نريده فسوف نسقطك كما اسقطنا عبد المهدي). وهذا ما ينبغي لأصحاب الشأن في بغداد الانتباه والتنبه إليه جيدًا، خصوصًا وأن مرحلة ما بعد استقالة عبد المهدي، كافية بكل ما حفلت به من مشاكل وأزمات ومخاطر وتهديدات وتحديات، للعمل بجد حتى لا تتكرر الاخطاء، وحتى لا تتمكن واشنطن من اشعال النيران مرة اخرى.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha