مجيد الطائي ||
ونحن نعيش أزمة ارتفاع الأسعار الجنوني،ومنها أسعار الخبز في ألمانيا وفي أوربا عموماً بسبب الحرب في أوكرانيا والحصار الأمريكي على روسيا،وهو حديث الناس الشاغل،كنت أتساءل مع نفسي وفي شجون الحديث مع الأصدقاء عن سبب سكوت الشعب الألماني أزاء التخبط في قرارات الحكومة التي تدعم حربًا لا ناقة لها فيها ولا جمل، والتي قد تجرنا الى مستقبل مجهول، فمتى سينتهي هذا التقاعس وينتفض هذا الشعب المدجَّن، حقاً إنه أمر مثير للإستغراب .
وشاء الله أن تقع عيني على مقالٍ للفيلسوف الألماني الملقب بضمير الشعب النابض Günther Anders المولود في 1908 والمتوفى 1977 ، والتي كانت تحت عنوان : كيف نمنع أي انتفاضة شعبية؟.
سأقوم بعرض وتحديث فكرته بتصرف وإسقاطها على بعض مفردات الواقع في المجتمع الألماني الذي أعيش فيه منذ العام 1990.
فيقول إنه من الواضح لقمع أي تمرد قد يحدث مستقبلاً،
فإن الأساليب القديمة مثل أساليب هتلر ،والتي مازال يستخدمها الظلمة ومنهم حكام العرب وكيان الإحتلال ، قد عفا عليها الزمن، ، فالعنف كأسلوب لفض النزاعات قد يأتي بنتائج عكسية عاجلًا أم آجلًا .
وبدلاً عن ذلك يكفي إنشاء وضع اجتماعي عام وقوي لدرجة أن فكرة الانتفاضة ذاتها لاتتبادر الى الأذهان، ناهيك عن التفكير في التمرد أو الثورة.
الطريقة المثلى لفعل ذلك هي التأثير على المواطن، ومنذ الولادة، عن طريق الحد من قدراتهم البيولوجية والفطرية وطبائعهم المعنوية " فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ "
ويعتمدون في ذلك على خفض مستوى وجودة التعليم التربوي العام بشكل كبير المستند إلى مُثُلٍ عليا وأصول أخلاقية، بإعادته إلى شكل من أشكال التكامل مع المهنة والتدريب المهني والتشغيل.
الفكرة تقول : سنجعل الفرد غير المتأقلم مع نظامنا التعليمي ذا أفق محدود من الفكر ويبدو وكأنه نشاز بل مثير للسخرية ، ما يسمح له فقط بممارسة بعض المهن الوضيعة زهيدة الأجرة،و سيجعل تفكيره يقتصر فقط على الاهتمامات البيولوجية المادية ( الغرائزية ) والمتواضعة وهموم الكد المعيشي ،
بذلك سنقلل من قدرته على التلميح الى التمرد والعصيان أو التفكير بذلك .
لتحقيق ذلك يجب أن نضمن أن طريق الوصول إلى معرفة أسرار وحقائق الأمور ستصبح أكثر صعوبة، ونحصره في نخبة خاصة،
و نجعل الفجوة تتسع و تتسع و تتسع بين عامة الناس والثقافة الموضوعية الموسوعية. وتغيير مفاهيم الحسن والقبح وتبديل كل الموازين الأخلاقية وإلباس الحق بالباطل .
سنهيّئ لذلك رجال الدين، مدربين تارة وعلماء متخصصين تارة اخرى، ونستعين بالتحليل النفسي أحياناً.
وستكون المعلومات الضرورية والموجهة لعامة الناس، يتم تحريفها من محتواها وسيحرف الكلم عن موضعة،
و جعل من له رأي آخر يبدو و كأنه تخريبي مخل بالنظام. ومحاصرة الفلسفة والآيديولوجيا،
ونكرر أنه من الضروري جدا استخدام الإقناع والتدليس وليس العنف المباشر: .
لذلك نجد حاليًّا فئة معينة في ألمانيا تحتكر الهيمنة على ثلاث محاور، وهي التعليم والإعلام والقضاء لتنفيذ هذه الخطط.
فيتم على نطاق واسع، عبر التلفزيون و عبر وسائل الإعلام كلها ضخ اكاذيب و شائعات معينة، سنكررها بما يكفي حتى تُرسخ كعقائد ثابتة في الأذهان، سنستعمل الترفيه، التسلية والعاطفة والغريزة والتفاهة والإبتذال وما الى ذلك .
وعلى سبيل المثال صار ليس بمقدور مواطن ألماني يعترض على الشذوذ الجنسي أو الإنحلال الأسري والأخلاقي أو انتقاد فئة معينة .ويتم إيجاد حلقة مفرغة لنقاشات عقيمة وجدال فارغ المحتوى ، ونشغلهم بالثرثرة والموسيقى المستمرة حد الهوس ، فالهوس يمنع العقل من التساؤل والتفكير والتأمل. ( وصارت الأمور في هذا كارثية بعد ان خيمت على العالم شبكات التواصل الاجتماعي ) .
سنضع الجنس في مقدمة الاهتمامات البشرية. كمخدر اجتماعي وأفيون للشعب، سنظهره على انه هو بداية العالم و نهايته و لا صوت يعلو فوق صوت هذه المتعة، ومتعتها في تهورها . ( وصار الشذوذ محميًّا بالقانون بل سيعاقب كل من يجرؤ أن ينقد الشذوذ أو يبدي رأيًا مخالفًا، وهو الذي كان مرفوضًا بشكل قاطع في المجتمع الألماني)
بشكل عام، سوف نتأكد من إبعاد الجدية والحماسة ،
ونقدم الاستهزاء بأي شيء فطري ذي قيمة عالية،
بحيث تصبح نشوة الدعاية والأسواق والاستهلاك والسفر الى الشواطئ هي معايير السعادة البشرية وأعلى درجات الحرية.
في الأخير، لابد أن نحصل على شعب طوباوي ،و سيكون الخوف الوحيد (الذي يجب الحفاظ عليه) و الذي يتملك كل فرد هو الخوف من الابتعاد عن النظام العام المخطط له بهذا الشكل ،
وبدونها لابد من أن نشعر بعدم القدرة على الوصول إلى الظروف المادية اللازمة للسعادة.
يجب أن يعامل الرجل الجماعي، الذي يتم إنتاجه بهذه الطريقة، على الحقيقة التالية أنه حيوان منتج ، وجب علينا مراقبته كما ينبغي، بالرمي به داخل القطيع.
ليشعر بالحاجة لرضوخه الى النوم والأكل الكافيين، و تخدير عقله النقدي ليصبح مقبولًا اجتماعيًا، و يجب محاربة كل ما قد يؤدي إلى إيقاظه والسخرية منه وخنقه . وكذلك نعته بالتطرف والإرهاب والأصولية .
فيجب أولاً تصنيف أي عقيدة تتحدى النظام على إنها تخريبية وإرهابية، ومن ثم يجب التعامل مع من يدعمها على هذا النحو ..
ثم تطور مصداق هذا المفهوم الى تهم التشدد أو دعم الإرهاب ومعاداة السامية .
لكن قد تجرنا عواقب الحرب الأوكرانية الى رؤية مجتمع ألماني مختلف .
«فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍۢ»
مجيد الطائي
ألمانيا – أسن
ألواح طينية ، مجيد الطائي ، فكرة الانتفاضة
https://telegram.me/buratha