عادل الجبوري ||
لعل جولات الحوار الإيراني - السعودي التي استضافتها بغداد ورعتها خلال العام الماضي، كسرت الكثير من الجمود بين الطرفين المتخاصمين.
في 22 كانون الأول/ديسمبر الماضي، زار وزير الخارجيّة العراقي فؤاد حسين العاصمة الإيرانية طهران على رأس وفد رفيع المستوى، ضمَّ مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي. ولم تكن هذه الزيارة هي الأولى من نوعها للوزير حسين إلى طهران، بل ربما كانت الرابعة أو الخامسة منذ تولّيه المنصب في صيف العام 2020، بيد أنَّها حظيت باهتمام سياسي وإعلامي بدا استثنائياً نوعاً ما مقارنة بزياراته السابقة، فضلاً عن زيارات مماثلة لشخصيّات عراقية أخرى.
ارتبطت أهميّة زيارة الوزير حسين بملفين رئيسيين، تمثّل الأول بجهود بغداد في التقريب بين طهران والرياض؛ تلك الجهود التي انطلقت منذ فترة غير قصيرة، وأثمرت حلحلة ملموسة في المواقف بشأن قضايا مختلفة، علماً أن جهود بغداد في هذا الجانب لم تكن منفصلة أو بعيدة عن جهود أخرى في السياق ذاته، قامت بها سلطنة عُمان وأطراف أخرى، كما أنها لم تكن منفصلة أو بعيدة عن حراك إقليمي متعدد الاتجاهات بين أبو ظبي وطهران وأنقرة وبغداد والدوحة والقاهرة والرياض وصنعاء، وربما عواصم أخرى.
ولعل جولات الحوار الإيراني - السعودي التي استضافتها بغداد ورعتها خلال العام الماضي، كسرت الكثير من الجمود بين الطرفين المتخاصمين، والمتقاطعين على طول الخطّ بخصوص مجمل ملفات المنطقة وأزماتها، بدءاً من العراق، مروراً بسوريا واليمن ولبنان، وليس انتهاء بفلسطين.
صحيح أنَّ ملفات الخلاف بين طهران والرياض ما زالت مفتوحة، لكن يبدو أنَّ الأمور تتحرّك بمسارات إيجابية إلى حد ما، بعد 4 جولات من الحوار في بغداد، وتحضيرات لجولة خامسة، بحسب ما أكّد من طهران كلّ من الوزير فؤاد حسين ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بالقول: "إن الجانب السعودي اطلع على مقترحات إيران بنظرة إيجابية، وستجتمع وفود من البلدين قريباً في بغداد، وطهران مستعدة لتبادل اللجان مع الرياض والتمهيد لإعادة فتح السفارات".
بعد أن وافقت الرياض على الاستجابة لوساطات عراقية وعُمانية لنقل السفير الإيراني الراحل في اليمن حسن ايرلو إلى بلاده عبر مدينة البصرة، بعد إصابته بفيروس كورونا، أعلنت موافقتها على منح تأشيرات دخول لـ3 دبلوماسيين إيرانيين، لتمثيل بلادهم في منظمة التعاون الإسلامي التي تتّخذ من مدينة جدة السعودية مقراً لها.
ونقل عدد من وسائل الإعلام الإيرانية عن عبد اللهيان في حينه، قوله: "بفضل جهود وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، ستشارك إيران في الجولة المقبلة من المحادثات الإيرانية السعودية في بغداد"، شاكراً "الحكومة العراقية على جهودها للمساعدة في حلّ سوء التفاهم وإعادة العلاقات الإيرانية السعودية إلى طبيعتها". يأتي هذا في الوقت الذي اعتبر مسؤولون سعوديون أنَّ الخطوات الجديدة بين طهران والرياض بمثابة "تحريك للمياه الراكدة بين البلدين على الصعيد الدبلوماسي".
وما يعطي زخماً للحراك الإيجابي بين طهران والرياض أن خطواته أو مخرجاته الأخيرة جاءت متزامنة مع بوادر انفتاح إماراتي واضح على إيران، كجزء من التوجه الإماراتي لحلحلة وتطويق الأزمات مع الفرقاء الإقليميين، مثل سوريا وتركيا، إذ إن الزيارة الرسمية التي قام بها مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد لطهران قبل أسابيع قليلة، كانت لها أصداء إيجابية كبيرة، فضلاً عن تفعيل قنوات الاتصال والتواصل الدبلوماسي وغير الدبلوماسي بين طهران وأبو ظبي بوتيرة متصاعدة ومتسارعة.
وقبل أسابيع قليلة، تداولت بعض المصادر توجيهات من الرئاسة الإيرانية إلى وسائل الإعلام المحلية بضرورة تبني خطاب هادئ وتجنّب التصعيد والتأزيم مع الدول العربية، كجزء من نهج الحوار والانفتاح الَّذي قررت حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي العمل به في سياساتها وعلاقاتها الخارجية مع محطيها الإقليمي - العربي.
وما يعزّز ذلك هو التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني مؤخراً، وقال فيها: "إنَّ إيران تؤمن بأهمية حصول حوار إقليمي واسع يشمل السعودية ومصر وتركيا لحلّ مشاكل المنطقة، وحوارنا مع السعودية إيجابي وبنّاء، ونحن مستعدون لإعادة العلاقات في أيّ وقت. وخلال أيام، سيعود ممثّلونا إلى منظمة التعاون الإسلامي بجدة، وهذه الخطوة إيجابية".
من الطّبيعي أنَّ مجمل هذا الحراك من شأنه أن يساهم بشكل أو بآخر في تحقيق قدر من الهدوء في المنطقة، والاتجاه نحو صياغة مصالحات وتفاهمات ضرورية، بعيداً عن سياسات كسر العظم والإملاءات والتعويل على القوى الدولية من أجل إلحاق الهزيمة بالخصوم.
وتعدّ ملامح عودة سوريا إلى فضائها العربي، والرغبة في وضع حدٍّ للحرب في اليمن، وتخفيف حدّة الاحتقان السياسي في لبنان، فضلاً عن أجواء التفاؤل المشوبة بالحذر والتوجّس في ما يتعلَّق بالملف النووي الإيراني، مؤشرات على جدوى الحراك وفائدته وآفاقه الإيجابية.
ولا شكّ في أنَّ العراق يعدّ أحد أبرز الأطراف التي يمكن أن تنعكس عليها كلّ الخطوات والمبادرات الإيجابية على الصعيد الإقليمي، ارتباطاً بطبيعة الأحداث والظروف التي مرّ بها على امتداد 19 عاماً - وحتى قبلها - إذ كان في معظم الأحيان ميداناً للتصارع والتنافس والتخاصم بين قوى وأطراف دولية وإقليمية مختلفة. وقد تسبَّب ذلك التصارع والتنافس والتخاصم بالكثير من المشاكل والأزمات والتعقيدات السياسية والأمنية والاقتصادية الَّتي ما زالت ماثلة ومهيمنة على المشهد العام في البلاد.
وترى أوساط سياسية عراقية ومراكز بحثية وأصحاب رأي أنَّ المفاوضات التي ترعاها بغداد للتقريب بين الرياض وطهران مهمّة جداً، لأنَّ نجاحها والتوصّل إلى حلول في ملفات خطرة سينعكسان إيجابياً على العراق والمنطقة بصورة عامة. وإذا ما نجحت تلك المفاوضات، فإنها ستنعكس على الوضع السياسي في البلاد بصورة عامة، وعلى الوضع الأمني والاقتصادي، وكذلك الإقليمي، وخصوصاً أن المنطقة مليئة بالأزمات اليوم.
وتؤكد هذه الأوساط "أن موقف العراق الدبلوماسي سيقوى بصورة كبيرة، ولا بدّ من إبراز الدور العراقي، لأن من مصلحة العراق تنقية الأجواء الإقليمية بين طهران والرياض".
قد لا تأتي النتائج والمعطيات الإيجابية سريعاً، لأنّ إذابة جبل الجليد المتراكم من الخلافات والتقاطعات والاختلافات تحتاج إلى وقت طويل. ولعلّ بغداد يمكن أن تنجح في بعض المواضع وتخفق في أخرى، لأسباب وظروف وعوامل موضوعية، لكن في كلِّ الأحوال، إنّ تحقيق الانفراجات، وإن كان في درجاته الدنيا، يعني حلحلة كلّ العقد وتخفيف مختلف الأزمات.
وهنا، إنَّ التأثير الإيراني في بعض القوى والفصائل السياسية والعسكرية العراقية قد يكون مطلوباً وضرورياً خلال المرحلة الراهنة، بما تحمله من استحقاقات، لعلَّ في مقدمتها الانسحاب العسكري الأميركي المفترض من العراق نهاية العام الماضي أو ما أُطلق عليه إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية وتحويلها إلى مهام تدريب واستشارة وتمكين، وهذا هو الملف الثاني الذي طُرح على طاولة مباحثات الوفد العراقي الزائر لطهران، برئاسة الوزير فؤاد حسين، مع كبار السّاسة وصنّاع القرار الإيرانيين.
لا يبتعد الملفّ الأوّل كثيراً عن الملف الثاني، إذ إنَّهما يحملان بعداً إقليمياً إلى جانب البعد المحلي الداخلي، مع التأكيد أنَّ الدور العراقي في التقريب بين إيران والسعودية، والذي يأتي منسجماً مع تقارب وتفاهم ثنائي بين بغداد والرياض، لا يلغي وجود ملفات عالقة وقضايا شائكة تتعلَّق بأحداث ووقائع تعود إلى أعوام سابقة، من قبيل دور الرياض بدعم الجماعات الإرهابية في العراق وتمويلها وإسنادها، سواء تنظيم "القاعدة" أو "داعش" أو سواهما، وكذلك دورها في تواصل الأزمات السياسية والخلافات بين فرقاء الساحة العراقية، ناهيك بأحداث ووقائع كبيرة عمّقت التقاطع والفراق بين طهران والرياض، كإعدام رجل الدين الشيعي السعودي الشيخ نمر باقر النمر مطلع العام 2016، ومن ثم إحراق السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مدينة مشهد، وقبل ذلك، وتحديداً في شهر أيلول/سبتمبر 2015، موت مئات الحجاج الإيرانيين، وبينهم مسؤولون كبار، في حادث تدافع في مشعر منى في مكة المكرمة، ما تسبّب بتفاقم الأزمة بين الطرفين، ولا سيما أنَّ طهران اعتبرت أنَّ الحادث كان مدبراً.
وبقدر ما تجد الرياض أنّ الحاجة ملحّة جداً لتجميد الخلافات والاختلافات وتطويقها، والعمل على إغلاق الملفات المفتوحة، وردم الهّوة بينها وبين طهران، والاتجاه إلى بناء جسور التلاقي والاتفاق بدلاً من هدم الموجود منها، فإنَّ الأخيرة لها ظروفها وحساباتها ودواعيها الخاصة للسير في الطريق نفسه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بغداد وعواصم أخرى، وصلت جميعها إلى قناعة بأنَّ الحوار هو المفتاح، ومن يهيئ الأرضيات والأجواء، ويقرّب بين الخصوم والفرقاء، لا بد من أن يحصد الثمار.