عادل الجبوري ||
في آخر تصريح صحفي له، أعلن الناطق الرسمي باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، اللواء يحيى رسول "ان العديد من القوات والمعدات التابعة للتحالف الدولي، تم سحبها من قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار".
وقبل عدة أيام أرسلت الحكومة العراقية وفدًا أمنيًا وعسكريًا برئاسة مستشار الأمن الوطني قاسم الاعرجي، وضم ضباطًا كبارًا، الى قاعدة عين الأسد لتقييم الخطوات المتخذة لاكمال الانسحاب الأميركي نهاية العام الجاري، وفق ما تم الاتفاق عليه في وقت سابق بين بغداد وواشنطن.
وفي ذات الوقت، نقلت أوساط سياسية ووسائل إعلام عن مصادر خاصة عن انتداب ضباط عراقيين، للاشراف وادارة قاعدة عين الأسد بعد انتهاء ما يسمى بـ"المهام القتالية لقوات التحالف الدولي" - وتحديدًا القوات الأميركية - بعد أقل من أسبوعين من الآن، فضلًا عن تصريحات للواء رسول قال فيها "ان عمل مستشاري قوات التحالف في عين الأسد سيكون بإدارة قائد عسكري عراقي، وبحماية عراقية".
الى جانب ذلك، أكد المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة العراقية اللواء تحسين الخفاجي "أن القوات القتالية الأميركية أكملت انسحابها من قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار، غربي العراق، ولم يتبق الا المستشارون، وأنها ستُجلي أيضا قواتها من قاعدة الحرير في أربيل خلال أيام، حيث سيذهب وفد أمني خاص إلى هذه القاعدة خلال الأيام القليلة المقبلة لمتابعة سير عملية انسحاب القوات القتالية الأميركية منها".
ولعل نظرة سريعة للوهلة الاولى حيال هذه الخطوات، تؤشر الى أن الأمور تسير على ما يرام، وانه بحلول الحادي والثلاثين من شهر كانون الاول-ديسمبير الجاري، ستطوى صفحة الاحتلال الأميركي للعراق، بيد أن التدقيق والتعمق قليلًا في الموضوع، يفند مثل هذه الانطباعات والتصورات والافتراضات المتفائلة، لأن مجمل العملية لا يتمثل بانهاء التواجد العسكري والانسحاب الحقيقي، بقدر ما يتمثل بتغيير المهام من "قتالية الى استشارية وتدريبية""، وهذا ما يتحدث به الأميركيون أنفسهم، ويحرصون على تثبيته، وفق ذريعة ما تطلبه وتقرره الحكومة العراقية من أدوار ومهام للقوات الأميركية.
ولا شك أن هناك فرقًا كبيرًا بين حزم الحقائب والانسحاب الكامل من جهة، وتغيير المهام والعناوين والمسميات، مع بقاء الأعداد والعِدد على حالها، من جهة أخرى.
قائد قوات ما يسمى بمكافحة تنظيم "داعش" في العراق الجنرال الأميركي جون بيرنان، أكد خلال مؤتمر صحفي في التاسع من كانون الاول-ديسمبر الحالي "أن القوات الأميركية لن تنسحب من العراق، وستبقى لممارسة مهام عملها الجديدة التي أنيطت بها، وأن الأوامر الأميركية من البيت الأبيض تضمنت تغييرًا في مهمة هذه القوات، وليس سحبها من العراق".
ويصف برينان بقاء القوات الاميركية في العراق بعد موعد الانسحاب المقرر بـ"المرحلة الجديدة"، التي ستمارس خلالها تلك القوات مجموعة من المهام الجديدة، تتمحور حول دعم وتدريب وتطوير القوات العراقية، ويؤكد "ان بقاء هذه القوات يأتي بطلب رسمي مباشر من الحكومة العراقية في بغداد".
وهناك تصريح أكثر خطورة ووضوحًا جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الحرب (البنتاغون)، جون كيربي، أوردته صحيفة (ذا هيل) الأميركية قبل عدة أيام، قال فيه "إن القرار الأميركي بإبقاء القوات يأتي بعد انهاء المحادثات مع بغداد، اذ إن بقاء هذه القوات يحظى بدعم وموافقة من الحكومة في بغداد، وإن عددها الذي سيبقى في العراق بعد الانسحاب، لن يتغير نهائيا"، حيث ستحتفظ الولايات المتحدة بالعدد الحالي من الجنود والبالغ 2500 جندي أميركي، بالإضافة الى المتعاقدين العسكريين مع الشركات الاميركية الأخرى، والتي لم يكشف عن اعدادها حتى الآن.
أضف الى ذلك، فإن مجلة (سترايبس) العسكرية الأميركية نقلت تصريحات أخرى لكيربي، كشف فيها أن "الأوامر التي وردت هي بتغيير المهمة القتالية للقوات الأميركية الى مهمة دعم وإسناد فقط، هذا يعني أن التغيير يشمل طبيعة المهمة وليس طبيعة حجمها أو عدد القوات المطلوبة لها حتى الآن، والأمور لا تسير بطريقة كسر نمط عمل القوات الاميركية في العراق وسحبها كليا فجأة ومن دون سابق انذار".
أكثر من ذلك، زعم المتحدث باسم البنتاغون أن الاتفاق الذي عقد بين بايدن والكاظمي، لم يتضمن أي حديث عن سحب القوات الأميركية من العراق، بل إن الاتفاق تضمن فقط تغيير مهام تلك القوات.
وما يعزز حقيقة التوجهات والنوايا والمخططات الأميركية، هو السعي الى خلط الأوراق بطريقة أو بأخرى، كما حصل في الاستهدافات التي تعرضت لها عدة مواقع لقوات البيشمركة الكردية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ناهيك عن التفجير الارهابي الذي وقع وسط محافظة البصرة جنوبي البلاد.
حتى القصف الصاروخي الذي استهدفت المنطقة الخضراء مؤخرا، بدا وكأنه عملية مدبّرة ومبيتة، يراد من ورائها احراج فصائل المقاومة التي أعلنت في وقت سابق التزامها بهدنة مع قوات الاحتلال حتى موعد انسحابها الكامل نهاية العام الجاري، وما صدر من تصريحات على لسان المتحدث العسكري باسم كتائب حزب الله ابو علي العسكري، جاء بهذا المعنى اذ اكد "ان جهات مشبوهة نفذت العملية في توقيت مريب لتحقيق أجندات خبيثة، وخلط الاوراق، وان المستفيد الحقيقي هو العدو الاميركي".
ليس هذا فحسب، بل هناك حملات اعلامية وسياسية مكثفة انطلقت من جهات متعددة في واشنطن وبغداد وعواصم أخرى، منذ عدة أشهر وازداد زخمها خلال الأسابيع القلائل الماضية، تحذر من مخاطر انسحاب القوات الاميركية على أمن العراق، بحجة أن ذلك الانسحاب يمكن أن يفتح الباب لعودة تنظيم "داعش"، ويوسع سطوة ونفوذ الجماعات المسلحة، وكأن داعش والجماعات المسلحة وقبلها تنظيم "القاعدة"، لم تستبح العراق في ظل ذروة التواجد العسكري الاميركي. وتضخم تلك الجهات المخاوف والسيناريوهات التشاؤمية، عبر الاستدلال بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه ادارة الرئيس جو بايدن، بسحب قواتها من افغانستان وترك الامور بيد حركة "طالبان".
وفي سياق يعزز فرضية أو حقيقة خدعة الانسحاب، أوردت شبكة (سي جي تي ان) الصينية الاخبارية، في تقرير لها بثته في السابع من كانون الاول-ديسمبر الحالي "ان الحكومة البريطانية اتفقت مع حكومة الكاظمي على إبقاء قواتها أيضا في العراق، موضحة أن وزير الخارجية البريطاني ليز تروز، اتصل هاتفيًا بالكاظمي، واتفق معه خلال الاتصال، على إبقاء عديد القوات البريطانية ثابتًا في العراق دون تغيير، مع تعديل مهمتها الحالية من المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية داخل البلاد، الى تقديم الدعم والمشورة والتدريب للقوات العراقية".
هذا التضارب والتناقض بين ما يقوله المسؤولون العراقيون، وما يصرح به المسؤولون الاميركيون، وما تتناقله وسائل الاعلام الغربية، يشير الى ان واشنطن تتصرف بأسلوب مراوغ ومخادع، كما هو دأبها، مما يعني ان كل الخيارات والاحتمالات ستكون مفتوحة ومطروحة على الطاولة، لا سيما وان مسرح الاحداث العراقي الراهن، يشهد الكثير من التفاعلات والمخاضات الحادة، التي على ضوئها يمكن ان تتحدد مسارات وافاق المرحلة او المراحل المقبلة.
ـــــ
https://telegram.me/buratha