د.نعمه العبادي ||
تمتاز البلدان التي تحكمها حكومات شمولية ذات طابع بوليسي بكثرة الوثائق والاثباتات التي تطلب من المواطنين، حيث يدون المواطن خلال حياته وعمله وحتى بعد مماته مئات الاستمارات والوثائق التي في الغالب تطلب معلومات مكررة، كما، ان الحصول على اي خدمة او سلعة او اي شيء يتصل بالدولة، يمر عبر بيروقراطية تصرف أطنان الورق، وتتعاقب عليه عشرات الاختام والتوقيعات، والعراق مثال مميز في هذا المضمار خصوصاً في الازمنة الغابرة، ومع كل هذا الكم من الاثباتات التي يدونها او تدون على كل مواطن بغض النظر عن مهنته ومكانته، فإن رصيدنا من ذاكرة الوثائق هو الادنى، بل كثيراً ما يكتشف الانسان الذي أمضى سنين طويل في مجال ما بأنه بلا تأريخ ولا أي اثبات يدلل على وجوده بما في ذلك سجلات النفوس والعقارات وغيرها من الاصول المهمة، فبعض نهبته الحروب، وآخر احرقته الاضطرابات، وقسم أخفاه الفساد، وقدر أتلفته الانظمة والسلطات عن عمد، وما بقي أجهزت عليه الاحتلالات، فتصور أنك:
- تدرس عشرات السنين وتعبر مئات الامتحانات وكل ما يتصل بحياتك الدراسية، ثم يصدمك الواقع بأن جميع وثائقك الدراسية منهوبة او محروقة من مدرستك ومن التربية في محافظتك ومن الوزارة المعنية، ويكون الجواب، نعتذر عن تزويدك بأي وثيقة، فتكون انت ومن لم يدرس على حد سواء..!
- أو انك قضيت خدمة عسكرية طويلة في حروب ومعارك، ونقلت الى عشرات الوحدات العسكرية، ومرت بك أيام عصيبة، ثم لا تجد ما يثبت ذلك او ان الاثباتات لا تعبر إلا عن ربع او عشر المدة التي قضيتها.
-أو انك تعرضت للملاحقة والحبس والتعذيب ودارت عليك الاهوال ومرت بك ألف رزية ورزية، ولكنك تعجز عن اثبات ذلك بسبب ضياع الاوراق والوثائق، فليس لك اي سجل او ذاكرة لدى الدولة لتسعفك.
- قضيت شبابك وهرمك في عمل وظيفي، وتدرجت خلاله، وخدمت بلدك في سنين طويلة ثم لا تجد ما يثبت ذلك، وتكون بلا تاريخ...!
- لم تجد سجل ولادتك، ولا قيد احوالك، ولا صحيفة عائلتك، وكأنك لم تكن قد أتيت إلى الدنيا، ولست وجودا فيها..
- عملت وشقيت واشتريت ملكا او ورثته او وصلك بطريقة ما، ثم يصدمك الواقع بأنه لم يبقى اي دليل رسمي يثبت ملكيتك وان لست صاحب حق، ولا يمكنك الوصول الى حقك..
هذه مجرد نماذج وعناوين عامة، وادرك اننا لو عملنا تحري وتفتيش لسمعنا قصص وغصص في هذا المجال..
طبعا، هذا الفقد لا يعني غياب الوثائق وحسب، بل يعني:
- انك تفقد جميع الفرص والامتيازات التي تستحقها ولكنها موقوفة على تلك الوثائق.
- وانك لا بد ان تدخل في دوامة بحث لمخرج ما لقضيتك المعجزة لكي تستعيد او تثبت انك وجود..
- وانك لابد ان تحضر نفسك لمراجعات مضنية، وايام تعيسة، والمزيد من الابتزاز من قبل ضعاف النفوس لغرض الوصول الى حل..
وبناء على هذا الحال، ولأن الامر عام، ولا تخلو مدينة او قصبة او قطاع او مؤسسة من هذا التحدي، أرى وكأسبقية وطنية لأي حكومة مهما كان نوعها وتوجهها العمل على الآتي:
١- اطلاق مشروع استعادة وثائق الدولة، والذي يعني البحث على المستوى الوطني في اي موضع داخل البلد وخارجه عن اية وثائق رسمية لها صلة بالدولة ومؤسساتها او المواطنين بما في ذلك عرض مكافئات تشجيعية لمن يسلم ما بحوزته من وثائق واوراق ولو نسخ منها.
٢- فتح تحقيق شامل يبحث في خلفيات نهب وسرقة الكثير من الوثائق، ومطالبة اي جهة استولت على الوثائق او تصرفت بها بتحمل المسؤولية، واصدار احكام قضائية بهذا الشأن.
٣- اصدار قرارت تعالج الحالات العامة بطريقة تصبح حل وطني قابل للتطبيق على كل حالة مماثلة مثل موضوع فقدان الوثائق الدراسية وامثالها من الحالات المشابهة.
٤- اعادة النظر في متطلبات بعض الامتيازات والحقوق على اساس ظروف فقدان الوثائق.
٥- توجيه كل الدوائر بأعادة التأكيد والفحص والتحري من تركتها من الارشيف للقطع بخلوها من الوثائق المبحوث عنها، إذ ان هناك ارشيف وسجلات في دوائر لم يتم بحثه والتحري عنه بشكل دقيق.
٦- الطلب الى كل مؤسسات الدولة لتوثيق كل شيء مهم ويتعلق بحياة الناس ومصيرهم بأكثير من وسيلة وفي اكثر من موضوع، واستحداث آليات لحفظ الاصول المهمة، واختيار مواضع آمنة للايداع.
٧- السماح وتشجيع الجميع على الاحتفاظ بنسخ متعلقاتهم الشخصية مثل وثيقة دراسية لكل عام او اثباتات وظيفية وغيرهن، لاننا لا نضمن عدم تكرار ذلك في لحظة..
ختاما: ادعو البرلمان المرتقب ان يفتتح اعماله بقرارات جادة في معالجة هذا الملف الحساس، وستكون افتتاحية موفقة ترفع من وصيد مقبوليته لدى الجمهور، وتفتح الباب واسعا لخطوات جادة في مشروع بناء الدولة.