عادل الجبوري ||
قبل أسابيع قلائل، أفتى المرجع الديني آية الله العظمى سماحة السيد علي السيستاني بحرمة التعامل بالمنتجات الاسرائيلية أو الداعمة لها، وجاء في رد سماحته على سؤال وجه إليه مفاده "هل يجوز البيع والشراء من محلات تخصّص بعضًا من أرباحها لدعم "إسرائيل"؟"، انه "لا ترخيص في التعامل بالمنتوجات الإسرائيلية ومنتوجات الشركات التي يثبت بصورة مؤكدة انها تدعم الكيان الاسرائيلي دعمًا مؤثرًا".
سواء كان ما صدر عن المرجع السيستاني فتوى أو رد على جواب، فإنه في كل الأحوال ينطوي على أهمية كبيرة، ارتباطا بطبيعة الموضوع المثار، ومجمل التحركات والجهود والمساعي لجعل التطبيع خيارًا لا بد منه وأمرًا واقعًا، في اطار المنظومتين العربية والاسلامية، والعراق من ضمنها.
هذا الموقف المرجعي، أوصد بابًا من أبواب التطبيع مع الكيان الصهيوني، في وقت راحت أطراف عربية مختلفة تهرول وتلهث وراء سراب اقامة العلاقات الطبيعية مع "تل ابيب"، من خلال ابرام الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والامنية والاقتصادية والثقافية، وفتح السفارات والقنصليات، وتبادل الزيارات، والضخ والترويج الاعلامي المتواصل لترسيخ واقع لا يمكن بأي حال من الاحوال ترسيخه. ولعل تجربة اتفاقيات التطبيع التي ابرمت بين مصر والاردن من جهة والكيان الصهيوني من جهة اخرى قبل عقود من الزمن، خير شاهد ودليل، باعتبار أنها لم تفلح في طي صفحة العداء، وتذويب المواقف المبدئية حيال الكيان الغاصب، وبقيت المواقف والتوجهات الشعبية والنخبوية غير الرسمية بعيدة الى حد كبير عن مسار التطبيع.
ولأن هناك مخططًا قديمًا - جديدًا لجعل العراق أحد أبرز بوابات التطبيع، لاعتبارات وأسباب ودواع مختلفة، تاريخية وسياسية وجغرافية ودينية، فإن "تل ابيب" والجهات الداعمة لهذا الاتجاه والمساندة له، استغلت الظروف الناشئة جراء الإطاحة بنظام صدام، واحتلال البلاد من قبل الولايات المتحدة الأميركية، لكي تفرض خيار التطبيع كأمر واقع. وفي هذا الاطار نشطت أوساط إعلامية وأكاديمية وسياسية صهيونية، وراحت تمد خيوطها الى داخل المنظومة السياسية والاجتماعية العراقية، عبر قنوات متنوعة. ورغم أن بعض الجهات والشخصيات انساقت وراء ذلك الخيار، مدفوعة بمغريات وتغريرات، إلا أن النتائج والمعطيات والمخرجات الاجمالية كانت مخيبة للآمال، بحيث إن الاتجاه الرافض للتطبيع مع الكيان الغاصب، اكتسح الاتجاه الداعم والمؤيد، وقد تمثل الاتجاه الرافض، بمرجعيات وأوساط دينية علمائية، وقوى وأحزاب وتيارات سياسية، ومحافل ثقافية وفكرية واكاديمية، الى جانب الشارع المتعدد في انتماءاته وعناوينه ومسمياته. وقد برز ذلك واضحًا وجليًا أكثر من أي وقت مضى، بالتزامن مع قيام بعض الأنظمة العربية بابرام اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني خلال العامين الاخيرين.
يدرك صناع القرار وواضعو الاستراتيجيات في "تل ابيب" وواشنطن ولندن وعواصم أخرى، أن ابرام اتفاقيات سلام مع العراق، كما حصل مع مصر في عام 1977، أو مع الاردن في عام 1994، أو مع الامارات والبحرين وعمان في عام 2020، أمر غير ممكن بسبب طبيعة الظروف والأوضاع السياسية، وعدم وجود سلطة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية وخطيرة، من قبيل اقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، لذا راحوا يفكرون بالأدوات والأساليب والوسائل الأخرى، ذات الطابع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من خلال استغلال منظومات التواصل الاجتماعي، وعموم الامكانيات الهائلة التي وفرتها ثورة المعلومات والاتصالات لاختصار المسافات ورفع العوائق والحواجز أمام الشعوب والأمم والمجتمعات، حتى باتت مواقع الـ"فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام" وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، بوابات مهمة لطرح وتبادل الاراء والأفكار، وتمهيد الأرضيات للكثير من البرامج والخطط والمشاريع، في ذات الوقت، توظيف العامل الاقتصادي، بما ينطوي عليه من اغراءات وحوافز ومشجعات في كسر بعض الاقفال المحكمة الاغلاق.
من الصعب جدًا - إن لم يكن من المستحيل - أن نشهد على ضوء الواقع القائم في العراق، نفس مشهد الحاخام اليهودي - الصهيوني يعقوب هيرتسوغ، وهو يرقص فرحًا في أحد شوارع الرياض بعد تعيينه ممثلًا للكيان الصهيوني في السعودية تحت دعوى مرجع اليهود الأكبر، ومن الصعب بمكان أن يتقبل العراقيون توافد اليهود الصهاينة - كسياح وعلماء وباحثين - إلى المدن والمواقع التاريخية الدينية، مثلما يمنون أنفسهم بالمجيء الى مدينة اور، حيث بيت النبي ابراهيم عليه السلام، تحت يافطة الحج الابراهيمي.
ويدرك العراقيون ويفهمون جيدًا أن تنظيم "داعش" الارهابي، الذي استباح أرواحهم ودماءهم، وانتهك حرماتهم ومقدساتهم، ودمر مدنهم وسلب أملاكهم وممتلكاتهم هو صناعة أميركية صهيونية، وهو ما اعترف به الصهاينة أنفسهم مرات ومرات، فذاك الحاخام الاسرائيلي بير بن ارتسي، يقول في تصريح له عام 2015، بعدما استباحت عصابات "داعش" أرض العراق وسوريا "إن الرب سلط "داعش" على الدول والأمم التي تريد السيطرة على أرض "إسرائيل" والقضاء علينا في أنحاء العالم، اذ ان انتشار "داعش" في المنطقة العربية وانضمام أوروبيين إلى هذه الجماعة، بل توجيه ضربات في أوروبا يهدف في الأساس إلى تهجير اليهود إلى "إسرائيل"، لذا تعتبر داعش حامية لليهود".
ومما لا شك فيه أن أي فتوى أو رأي للمرجعية الدينية حيال العلاقات والتطبيع مع الكيان الصهيوني، لا بد أن يكون له أثر وتأثير كبير في مجتمع يكن الكثير من التقدير والاحترام لمرجعياته وزعاماته الدينية، فضلًا عن التقيد والالتزام بتوجيهاتها ونصائحها، ايا كانت الصيغة التي تطرح فيها تلك النصائح والتوجيهات.