عادل لجبوري ||
تفرض طبيعة أوضاع المنطقة وظروفها والتحديات والمخاطر المحدقة بدولها وشعوبها، ولا سيما العراق ولبنان على السواء، تواصلاً وتعاوناً وتنسيقاً.
كانت زيارة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العراق مفاجئة وسريعة وخاطفة، إذ لم يتم الإعلان عنها مسبقاً، ولم تتعدَّ مدتها بضع ساعات، تخلّلتها اجتماعات مكثفة وغداء عمل. وقد اقتصر الوفد المرافق لميقاتي على شخصيات قليلة، من بينها المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، والسفير اللبناني في العراق علي حبحاب، وعدد من المستشارين والخبراء. وفي الجانب العراقي، اقتصر الأمر، فضلاً عن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، على كل من وزير النفط إحسان عبد الجبار ومدير مكتب رئيس الوزراء رائد جوحي.
جاءت زيارة ميقاتي لبغداد بعد أقل من شهرين على حصول حكومته على ثقة البرلمان، ومثّلت المحطة الخارجية الثالثة له بعد كلٍّ من باريس وعمّان. ولا شكّ في أن هذه الزيارة المفاجئة والخاطفة والسريعة ارتبطت بظروف وأوضاع حساسة وحرجة للغاية يعيشها لبنان منذ أكثر من عامين، في ظل احتقان سياسي كبير، وضغط اقتصادي هائل، وتحدٍّ أمني خطر.
وبما أن الاقتصاد يعد المفتاح لحلّ مختلف المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والمجتمعية، والمشهد اللبناني العام بشتى تفاعلاته وتداعيه يؤشر إلى ذلك بكل وضوح، فمن الطبيعي جداً أن يكون الملف الاقتصادي قد تصدَّر مباحثات ميقاتي مع الكاظمي في بغداد، انطلاقاً من الاتفاق الذي أُبرم بين بغداد وبيروت في مطلع شهر نيسان/أبريل الماضي، من قبل وزير الصحة والبيئة العراقي السابق حسن التميمي ونظيره اللبناني حمد حسن. وبمقتضاه، يزود العراق لبنان بمليون طن من زيت الوقود الثقيل خلال عام، مقابل خدمات طبية وعلاجية، تتمثل، بحسب بنود الاتفاق، بالتالي:
- التعاون في مجال السياحة العلاجية والإخلاء والاستقدام الطبيين.
- التعاون في مجال إدارة المستشفيات الحديثة في جمهورية العراق من قبل خبراء لبنانيين وطواقم طبية متخصصة. وسيكون للكوادر اللبنانية شرف المساعدة في إدارة هذه المؤسسات.
- التعاون في مجال التدريب الطبي والصحي، عبر برامج تدريبية تحدد وفق الحاجة، وكذلك السماح للأساتذة اللبنانيين بالتعليم والتدريب في المؤسسات الصحية والاستشفائية العراقية.
- التعاون في ضبط معايير الأداء والجودة والاعتمادية التي يمتاز بها لبنان، والتي تجريها وزارة الصحة بمواكبة من رؤساء المديريات والمصالح في الوزارة".
ويبدو أن بعض الإشكاليات الفنية والإدارية حالت دون الشروع بتنفيذ الاتفاق عملياً لعدة أشهر، حتى وصلت الشحنة الأولى من الوقود العراقي إلى لبنان منتصف شهر أيلول/سبتمبر الماضي، والتي تبلغ 31 ألف طن من الكازويل، من دون التغلب على كل المعوقات والعراقيل.
ولعل هذا الأمر كان من بين أبرز الموضوعات التي طرحت على طاولة مباحثات ميقاتي والكاظمي، إذ إن الظروف الاقتصادية والحياتية الحرجة التي يواجهها معظم المواطنين اللبنانيين، والاستحقاقات المطلوبة من حكومة ميقاتي ذات الولادة العسيرة والشاقة، تحتم إيلاء الاقتصاد الأهمية الأكبر، وجعله في مقدمة الأولويات، ولا سيما أنَّ فصل الشتاء على الأبواب.
وفي ضوء حقيقة أنَّ الاقتصاد هو المفتاح نحو آفاق السياسة والأمن، من المهم النظر إلى التعاون الاقتصادي بين العراق ولبنان في مثل هذه الظروف والأوضاع بصورة معمّقة، لأنه ينطوي على رسائل عديدة، وإن اختلفت عناوينها العامة، إلا أنَّها حملت أو تحمل المضمون نفسه.
وهنا، ينبغي العودة قليلاً إلى الوراء، للإحاطة بمجمل الحراك السياسيّ وغير السياسيّ في مسيرة العلاقات العراقية -اللبنانية، إن لم يكن على المدى البعيد، فعلى المديين المتوسط والقريب.
في 17 تموز/يوليو 2008، قام رئيس الوزراء اللبناني السابق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري بزيارة لبغداد، في وقت كان الاحتقان الطائفي قد بلغ مستوى عالياً جداً في الشارع العراقي، جراء النهج الإرهابي لتنظيم "القاعدة" المدعوم من أطراف وقوى إقليمية ودولية، وتأزم العلاقات بين بغداد والرياض إلى حد كبير.
وبعد حوالى شهر من زيارة الحريري، زار رئيس الوزراء اللبناني في حينه فؤاد السنيورة العراق على رأس وفد حكومي رفيع المستوى، لفتح آفاق جديدة للعلاقات بين بغداد وبيروت، علماً أن السنيورة كان ثاني مسؤول عربي رفيع المستوى، بعد الملك الأردني عبد الله الثاني، يزور العراق منذ خضوعه للاحتلال الأميركي في ربيع العام 2003.
وفي أواخر شهر آذار/مارس 2019، زار رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري العراق، والتقى كبار الساسة والمسؤولين العراقيين. وكان من المقرر أن يزور بغداد أيضاً رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال السابق حسان دياب في منتصف شهر نيسان/أبريل الماضي، بيد أن الزيارة أُرجئَت لأسباب غير واضحة.
من الطبيعي أن حراكاً بهذا المستوى لا بد من أن تكون له انعكاسات إيجابية وآثار ملموسة على واقع العلاقات بين الجانبين. وما يعزز تلك الانعكاسات والآثار الإيجابية، هو أنَّ هناك تواصلاً وتداخلاً وتشابكاً اجتماعياً وثقافياً ودينياً وعملياً، ربما يختلف إلى حد كبير عما هو عليه مع دول ومجتمعات أخرى.
وخلال ندوة عن حاضر العلاقات العراقية اللبنانية ومستقبلها، أقامها مركز الرافدين للحوار في مدينة النجف الأشرف في شهر أيار/مايو 2019، أكد السفير اللبناني في العراقي علي الحبحاب حرص حكومة بلاده على تمتين أواصر الترابط بين الشعبين الشقيقين، وتعزيز العلاقات بما ينسجم وتطلعات الدولتين، معبراً عن حرص الحكومة اللبنانية على التواصل مع مختلف الشرائح العراقية على كل المستويات والصعد، وخصوصاً ما يتعلَّق منها بالمراكز الثقافية والعلمية ذات الشأن في البلدين.
وتناول السفير في محاضرته "آفاق التعاون بين الشعبين العراقي واللبناني في المجالات الاقتصادية، عبر اتفاقية تحرير التجارة بين البلدين، وتفعيل خط نفط كركوك - طرابلس، وكذلك في المجال الأمني، إذ تم عقد اتفاقية التعاون القضائي، إضافةً إلى أنَّ هناك علاقات خاصة على المستويات الدينية وقنوات التواصل مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف، فضلاً عن الروابط المشتركة بين الكنائس الشرقية والغربية في بغداد وبيروت".
من جانب آخر، تفرض طبيعة أوضاع المنطقة وظروفها والتحديات والمخاطر المحدقة بدولها وشعوبها، ولا سيما العراق ولبنان على السواء، تواصلاً وتعاوناً وتنسيقاً، من أجل بلورة رؤى وتصورات ومواقف منسجمة مع حجم المخاطر والتحديات وطبيعتها، إذ إنَّ القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة ومصادر وأدوات ومحركات الأجندات والمشاريع المستهدف بها كلا الطرفين، تجعل من خيار التواصل والتعاون والتنسيق ضرورة ملحّة أكثر من كونها مجرد رغبات وتمنيات قد تتحقق وقد لا تتحقق، فهناك تهديدات الوجود الإسرائيلي، ومشاريع التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني برعاية ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، وهناك الإرهاب بعناوينه ومسمّياته المختلفة، والذي يتحرك في مساحات وميادين واسعة تضمّ العراق ولبنان وما بينهما وما وراءهما، وهناك السعي المتواصل لإضعاف إيران ومحاصرتها وتحجيمها، وكلّ ما يمتّ بصلة إلى محور المقاومة، وهناك الحروب والمعارك الناعمة بشتّى أشكالها ومظاهرها وصورها، وربما هناك ما هو غير ذلك الكثير.