ادريس هاني ||
يقود قيس سعيد معركة التحرير، أداته فيها الاستثناء وهو مبدأ دستوري، يحمي النظام ولا يسقطه، ويبقى التأويل هو: هل ثمّة ما يقتضي تنفيذ الاستثناء أم لا، غير أنّ ما تواجهه تونس وهي في مرحلة انتقالية تاريخية ترسم ملامح النظام الذي يرتضيه التونسيون ويأنسون به، ليس أمر عاديّا؛ بل هناك محاولة ممنهجة ومدعومة إقليميا ودوليا للهيمنة على المشهد السياسي من قبل النهضة، أي استغلال الديمقراطية الهشّة للتجذر في المشهد والتغلغل في المؤسسات.
وهنا أحب أن أعلّق على المتفلسف الأهبل، أبو يعرب الذي تحوّل إلى مهرّج ، بل إلى ناثر الأحقاد، وكأنه في تنظيره الأجوف بات وصيا على الشعب التونسي، آلته في ذلك تيميات متطرفة لا تنتمي إلى عصر الدّولة-الأمّة. لقد استمعت إليه وهو يتطوّح بحقد ضد الرئيس قيس، لأنّ هذا الأخير، إن كان له إنجاز كبير حققه، فهو قيادة الاستثناء، لأنّ لا طريق للتخلص من حركة التمكين إلاّ بالاستثناء، فكاتب الدستور وضع عجلة الاحتياط لإنقاذ الدّولة والمجتمع.
تناقضات أبي يعرب المرزوقي كبيرة جدّا، فهو لا يقول ما هو مقنع، في حركة حجاجية تقليدانية، يترنح فيها ما بين اللغة السياسية المعاصرة واللغة التيمية التي لا عهد لها بالدولة. لقد دعانا المرزوقي منذ سنوات لحسن الإنصات لابن خلدون في السياسة والتاريخ. ينسى المرزوقي في سياق اسنفار حماقاته ضد قيس سعيد أنّ نظرية بن خلدون في السياسة تقوم على العصبية والغُلب، وبأنّ الشرعية عند ابن خلدون تقوم على الغلبة. ولو أن المرزوقي طبق النظرية الخلدونية هنا، لوجد أنّ العصبية اليوم ليست بالضرورة قبلية، بل هي عصبية الدستور نفسه وغلبة الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس. فقيس سعيد هو الآن يستند خلدونيا على شوكة الدستور والقانون، أي الشرعية، لكن ما هي شرعية خصومه؟ لكن المرزوقي يعتبر قيس متجاوزا لبورقيبة وبن علي والباي، منطوق كلامه منطقيا يشير إلى أن هؤلاء لم يكونوا ديمقراطيين، إن حملنا كلامه محمل قياس الأولوية؛ غير أنّه لا زال يمجد في التجربة العثمانية ويدعو إليها مجددا.
ولأنّ منحى المرزوقي في الاعتقاد هو المجسم الحرّاني، فهو ينطّ مباشرة إلى وصف قيس سعيد بأنّه يتجاوز حدّه ويتألّه، وبأنه يتجاوز الأمة، لأنّ الأمة هي التي تحاسب، هذا بينما المرزوقي في لحظة تمجيده الأمبراطورية العثمانية، لم يخبرنا إذا ما كان بالفعل سليمان القانوني يسمح للأمّة بأن تحاسبه؟
ولا يقف المرزوقي عند هذا الحدّ، بل يدعوا إلى أن تقوم المحكمة التشريعية بمحاكمته بالخيانة العظمى، لكن ما هي الخيانة العظمى عند سفيه الفلاسفة وفيلسوف السفهاء؟ إنّها خيانة الإخوان، والانقلاب عليهم، وتقويض أمجاد الحرملكية وأحلام المرزوقي في قيام دولته الحرّانية..
لو كان المرزوقي قارئا جيدا لابن خلدون، لأغلق "بوزه"، لأنّه ينابذ من تحصلت لديه الشوكة والعصبية بمعناها الدستوري الحديث. بل سنجد المرزوقي يؤكد عبارة أن قيس سعيد رئيس سابق، مع أنّه يدرك أنّ الاستثناء حق دستوري وأنّ الرئيس شرعي وهو المسؤول عن حفظ النظام العام.
ويواصل المرزوقي قفشاته بالقول أن قيس سعيد كان شرعيا ليوم واحد، ولكننا حين نعود إلى الفترة التي تحامل فيها على قيس، فهي سابقة لانتخابه، بمعنى كان يعتبر وجوده غير شرعي منذ أطلق عليه صفة دمية قرطاج، واعتباره واجهة لمخططات إقليمية، لا زال يجترّ فيها كالأهبل، في نوع من الحجاج التّعسفي الذي لا يحترم ذكاء المتلقّي.
تدفع الهلوسة بالمرزوقي لكي يعيدنا في كلّ حكاية وتعليق، حتى حين يتعلق الأمر بإرادة الشعب التونسي، بالحشد الشعبي والحسابات العقائدية، لذا فهو يبشر من يعتقد أن لديهم أجندة استعادة الحكم الفاطمي، بأنه سيكون مآلهم مآل الأفغان وهم يتسابقون في مطار كابول. وهو يمنح لنفسه الحق بأن ينعث معظم المختصين بالقانون الدستوري بتونس كذّابة.
يصعب تصنيف كلام أبي يعرب المرزوقي في أي حقل من حقول المعرفة، بل حتى في حقل السياسة، فهو ممزّق بين ميله التيمي الظلامي لما قبل عصر الدولة، وبين حلمه الكبير بعودة سلطة الإيالة العثمانية بقيادة أودوغان _ معاوية الثّاني- وما تبقى من مفاهيم هي للاستعمال والتعمية.
إنّها معركة كبيرة، وإن كان المرزوقي يتنبّأ بهزيمة قيس سعيد فيها، وهو ضرب من الاستشراف الكيدي القائم على الآمال الميلونكوليكية، ذلك لأنّ تونس انفلتت من كابوس النّهضة، وهي في طريقها إلى استرجاع محتوى ثورتها المجيدة، قبل أن ينقضّ عليها الخرّاصون.
يبكي المرزوقي حظّه العاثر إلى حدّ أنّه يئس فيمن علّق عليهم آمالا وأحلاما. لعل أهم مظاهر هذا التناقض المفرط، التحذير من خطر أولئك الذين يعتبرهم أعداء للأمّة، وفي الوقت نفسه يؤكد على أنهم لا يدركون أنهم سيفشلون وسيصنعون فشلهم بأيديهم؛ وإذن، أليس من الحكمة أن تتركهم يفعلون، حتى يكون فشلهم أسرع، لم المقاومة إذن؟
تلفتني عدد المفارقات التي يستغبي بها المرزوقي مستمعيه ومشاهدين متكلما وقرائه كاتبا، إنّه تمرين لطالما جعلت منه مثالا لتشريح العقل العربي في مدارك انحطاطه، لم تعد مشكلتنا منذ زمن طويل لها علاقة بالجهل البسيط، جهل العوام، بل باتت مشكلة الجهل المركب، جهل النُّخب.
تكمن ديمقراطية قيس سعيد، خلف صخب الطوارئ والاستثناء، في كونه لا يتصرف بمزاج شخصي، وإلاّ كان من الطبيعي أن يُسلّم الحرملكي إلى المحكمة، نظرا لتطاوله واستخفافه برجل دولة ورئيسي دستوري. إنّ وجود شخص عدواني كأبي يعرب المرزوقي يصول ويجول بلسانه الطويل ضدّ الشرعية والقانون، دون إجراءات صحية لتسليمه إلى مستشفى الأمراض العقلية، خوفا من الوباء والعدوى.
ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب
https://telegram.me/buratha