عادل الجبوري ||
هزمت الولايات المتحدة الأميركية وسحبت كل قواتها القتالية وطواقمها الدبلوماسية من أفغانستان، بعد عشرين عامًا من غزوها واحتلالها ذلك البلد، لاسقاط نظام "طالبان" وإقامة نظام ديمقراطي، وهي بدلًا من أن تفعل ذلك فإنها خلفت دمارًا وخرابًا هائلًا وتخلفًا وفوضى واضطرابًا في كل المجالات والميادين. ولعل المشاهد الغريبة والفوضوية التي حفل بها مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة كابل خلال الأسبوعين الماضيين، تؤشر الى جانب من التركة الثقيلة التي تركتها وراءها واشنطن، وما سوف يضاف إليها حينما تبدأ القنابل الموقوتة التي خلفتها هناك بالانفجار. ولعل عودة حركة "طالبان" بطريقة دراماتيكية مفاجئة وسيطرتها على مقاليد الأمور، ربما تكون أول الغيث، وما يتبعه سيزيد من حجم الخراب والدمار، لأن واشنطن التي خرجت من الباب بصورة مذلة ومهينة وخالية الوفاض، لا بد أن تفكر أو فكرت بالعودة من الشباك، بأساليب ووسائل وأدوات مختلفة.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية غزت واحتلت العراق، في فترة زمنية مقاربة لاحتلالها وغزوها أفغانستان، وفي ظل ظروف وأوضاع متشابهة في الكثير من أبعادها وجوانبها، ومع وجود أجواء ضاغطة لاخراجها من العراق، لاحت هواجس ومخاوف من تكرار السيناريو الأفغاني في العراق، خصوصًا وأن واشنطن بدأت تدرك أن فرص امكانيات استمرار بقائها في العراق باتت معدومة أو شبه معدومة.
واذا كانت واشنطن قد غادرت أفغانستان، لتفسح المجال لحركة "طالبان" بالتمدد والهيمنة والإمساك بزمام الأمور، وكأن شيئًا لم يكن طيلة عقدين من الزمن، فهي ربما ترى أن الوقت ما زال مبكرًا جدًا لاتخاذ ذات الخطوة في العراق، لأسباب ودواع ترتبط بطبيعة الوضع العراقي، وتشابك المصالح، وتداخل الملفات مع الفضاء الاقليمي، لكن المعطيات والوقائع على الأرض، قد تفضي الى قرارات أخرى، في ظل إصرار المقاومة على تنفيذ الإرادة الشعبية، وقرار البرلمان، ومطالب المرجعية الدينية بإنهاء الاحتلال الأجنبي من أرض البلاد، ناهيك عن الأدوار السلبية الخفية لواشنطن وبعض حلفائها الاقليميين في إغراق العراق بالأزمات والمشاكل الحياتية المختلفة.
بيد أن ما تفكر به وتخطط له وتريده واشنطن، ليس بالضرورة أن يكون هو الحاصل، فرغبتها في البقاء في العراق راحت تصطدم بحقائق ومعطيات واقعية ملموسة على أرض الواقع، وكلما طال أمد بقائها، فإن المشاكل والعقد التي تواجهها ستتزايد وتتسع، لتضيّق مديات خياراتها وبدائلها، وترغمها على اتباع الأسوأ والأكثر كلفة منها، ولعل تجربتها في أفغانستان خير شاهد ودليل، في وقت ما زالت الذاكرة فيه مشحونة بمشاهد ومآلات احتلالها ومن ثم هزيمتها المذلة في فيتنام قبل حوالي خمسة عقود من الزمن.
واذا افترضنا أن تداعيات الأحداث في أفغانستان بعد مغادرة الأميركيين لها، هي جزء من ترتيبات مسبقة، لا تخرج عن سياق اعادة ترتيب الأوراق الأميركية في منطقة الشرق الاوسط وغرب اسيا ووسطها، على ضوء موازين القوى، واولويات ادارة الصراع مع كبار خصوم الولايات المتحدة الاميركية، وتحديدا روسيا والصين وايران، فإنها في حال فكرت ان تنفذ نفس السيناريو في العراق، فهي بلا شك سوف تواجه فشلا ذريعا، مع عدم اليقين من نجاحها في افغانستان.
رئيس تحالف الفتح هادي العامري، قال في تصريحات صحفية قبل عدة ايام "ان الوضع الذي تعيشه أفغانستان، بعد سيطرة طالبان عليها، لن يتكرر في العراق، وإن من يقارن الوضع في أفغانستان مع العراق لا يفقه شيئا، لانه لا يوجد أي وجه مقارنة بين العراق وأفغانستان"، وهذا ما يذهب اليه النائب في البرلمان العراقي وعضو اللجنة القانونية النيابية احمد الجبوري بقوله "إن جميع المعطيات العراقية والمقاربات بين الوضع الأفغاني لا تصح".
هذه الرؤية يعززها ساسة وأصحاب رأي من اتجاهات ومشارب مختلفة، انطلاقا من حقيقة أن القوات العراقية لديها جاهزية كبيرة، متمثلة بالجيش والحشد الشعبي والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب، فضلا عن أن حركة "طالبان" في افغانستان تتمتع بحاضنة شعبية كبيرة مهدت لها الطريق لامساك الارض سريعًا، بينما "داعش" خسر عسكريًا ومجتمعيًا في العراق، وباتت عملياته تعتمد اسلوب حرب العصابات والاستهدافات غير المؤثرة على هيكلية القوات العراقية.
ولعل المقاربات بين الانسحاب الاميركي من افغانستان والانسحاب المفترض أو المتوقع من العراق، تكشف عن اختلافات غير قليلة، وان كانت واشنطن لا تختلف كثيرا في تعاطيها مع حركة "طالبان"، عن تعاطيها مع تنظيم "داعش".
وفي الملف الافغاني، من اليسير جدا، تسجيل حزمة ملاحظات، من بينها أن الولايات المتحدة الاميركية التي غزت أفغانستان واحتلتها قبل عشرين عاما، لتنهي نظام حركة "طالبان"، هزمت وانسحبت لتفسح المجال للاخيرة من أجل الامساك بزمام الامور، ناهيك عن الخراب والدمار والتخلف والانقسام السياسي والمجتمعي الذي تسبب به الاحتلال الاميركي هناك، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حتى بدا اليوم ان المفاوضات التي رعتها واستضافتها دولة قطر بين واشنطن و"طالبان" قبل بضعة شهور، كان الهدف منها ترتيب اوراق ما بعد الانسحاب الاميركي، وهو ما أثار حفيظة واستياء أوساط وشخصيات سياسية اميركية، وولّد موجة انتقادات حادة ولاذعة لادارة الرئيس بايدن، واعتبر الرئيس الاميركي الاسبق جورج دبليو بوش أن ذلك الانسحاب سوف تكون له نتائج كارثية وخيمة على الولايات المتحدة وحلفائها ودول المنطقة، وربما تكون واشنطن قد ادركت مبكرا أخطاءها الكبيرة السابقة واللاحقة، لا سيما تلك المرتبطة بتداعيات ومخرجات الانسحاب، لذا راحت تبحث عمن يستطيع سد الفراغ، والتحكم بايقاع الاحداث القادمة. والمؤشرات تذهب الى ان واشنطن تسعى الى صياغة تفاهمات مع موسكو لذلك الغرض، مع اطلاق يد انقرة -الطامحة الى توسيع مساحات نفوذها وحضورها الاقليمي والعالمي- بقدر معين في الساحة الافغانية، مع الحرص الدائم والجهد المتواصل دون جدوى لابعاد طهران عن مفاصل الفعل والتأثير في المشهد الافغاني.
وفي ظل غياب الكوابح القوية والمؤثرة والحاسمة في افغانستان، فإن وجود المرجعية الدينية في العراق، وطبيعة المعادلات والتوازنات السياسية القائمة، وبروز الحشد الشعبي كقوة عسكرية ترتكر على أساس عقائدي، وذات اطار رسمي حكومي، وتشابك وتداخل مصالح العراق وأمنه مع مصالح وأمن الفضاء الاقليمي، الى جانب مساحات التفاهمات بين الفرقاء المحليين، رغم الاختلافات والخلافات، هذه كلها، تمثل عناصر أو عوامل ضبط وتوجيه مهمة وفاعلة للمسارات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل أو إهمال أي منها في أية خطط أو ترتيبات مستقبلية.
https://telegram.me/buratha