عادل الجبوري ||
الى ما قبل بضعة شهور، بدا للكثيرين أن قطار التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني سيصل إلى كل المحطات المطلوبة خلال وقت قصير، لا سيّما مع الاندفاع الكبير والسريع لأنظمة عربية في الإمارات والبحرين والمغرب والسودان وعمان نحو إبرام اتفاقيات الذل والهوان مع الكيان الغاصب.
وإلى ما قبل بضعة شهور، وفي خضم الضخ الإعلامي المتتابع لمؤتمرات واتفاقيات التطبيع، بدا للبعض ممن ينظرون الى ظاهر الأمور لا الى بواطنها وأعماقها، أن موازين القوى راحت تتغير سريعًا لصالح الكيان الغاصب، حتى أن هناك من راح يردد أنه لم يعد ممكنًا التخلف عن ركوب قطار التطبيع. ولكن ما إن ارتكب الجيش الصهيوني حماقة اقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين في شهر رمضان المبارك، حتى كشفت معركة "سيف القدس" الحقائق كما هي، لا كما كان يتمناها ويريدها البعض. ففي أيام قلائل أصابت صواريخ المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني بالشلل، بعد تعطل حركة المطارات والموانئ والمراكز التجارية والأسواق، وهروب الناس في تل ابيب والمدن الأخرى الى الملاجيء بحثًا عن الأمان.
هل يعلم المطبعون أن خسائر الكيان الصهيوني المادية بلغت نصف مليار دولار يوميًا خلال معركة "سيف القدس"؟ إذ إن خسائر البورصة بلغت 20%، ونصف المصانع في مناطق غلاف غزة أقفلت أبوابها، وقطاع السياحة الذي يشكل نسبة 7% من الاقتصاد الإسرائيلي أصيب بالشلل، ناهيك عن الضرر الكبير الذي لحق بقطاعات الغاز والصناعات العسكرية والبتروكيمياويات. وللمطبعين أن يتصوروا كيف سيكون حال ذلك الكيان لو طال أمد المعركة، ولو شاركت فيها أطراف أخرى بصورة مباشرة إلى جانب المقاومة الفلسطينية، كما أشار الى ذلك وزير الحرب الإسرائيلي السابق افيغدور ليبرلمان. ولا شك أن المطبعين في حال توقفوا عند تلك الحقائق والوقائع سيجدون أنهم كانوا يلهثون وراء سراب، لأن التطبيع مع الكيان لن يجلب لهم لا الأمن الحقيقي، ولا الاقتصاد الأفضل، ولا الاستقرار الأكثر، بل لن يأتي لهم إلا بالمزيد من الذل والخسران والضعف والهوان.
صحيح أن معركة "سيف القدس" توقفت وفق هدنة مشروطة، جاءت عبر وساطات عدة أطراف، إلا أنها في واقع الأمر لم تنته، وهناك جولات أخرى منها، من دون أن تكون بالضرورة جولات عسكرية، فالبعدان السياسي والاستراتيجي لهذه المعركة، ظهرا واضحين إلى حد كبير. إذ إن حقيقة ضعف الكيان الصهيوني الغاصب تجلت أكثر من أي وقت مضى، وفي شتى الصعد والجوانب والمستويات، فالقبة الحديدية فشلت في اداء المهام المطلوبة منها، ودائرة صنع القرار في تل ابيب، بدت على قدر كبير من التخبط والارتباك، والمجتمع الاسرائيلي، تعرض لصدمة قوية وهو يجد نفسه فاقدًا لأبسط مقومات ومتطلبات الأمن الاجتماعي.
هذا الضعف والخواء والارتباك الصهيوني، ليس كل شيء، بل إن الكيان الصهيوني مقبل على المزيد من التصدعات والانقسامات والانهيارات..
كل ذلك وغيره، يؤشر بوضوح إلى أن مشاريع التطبيع باتت في مهب الريح، وإذا كان من الممكن التعويل عليها في السابق بقدر معين، فإن معركة "سيف القدس"، بددت ذلك التعويل، ورسمت حقائق جديدة وصاغت معادلات بديلة.
وبينما كانت دوائر صنع القرار في تل ابيب وواشنطن وعواصم أخرى تصوب نظرها وتركيزها على العراق باعتباره المحطة الأساسية والمحورية في مسيرة التطبيع، ارتباطًا بحقائق عديدة، جاءت المواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية الداعمة للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في المواجهة الأخيرة مع الكيان الصهيوني، لتشكل ردًا قاطعًا وصريحًا وبليغًا على كل محاولات جر بغداد الى طريق ابو ظبي والمنامة والرباط والخرطوم، وقبل ذلك طريق القاهرة وعمّان.
وفي الواقع، فإن مواقف العراق الإيجابية من القضية الفلسطينية، ليست وليدة اليوم، بل على مر التاريخ المعاصر والحديث، سجل العراقيون على اختلاف توجهاتهم وعناوينهم وانتماءاتهم ومستوياتهم مواقف مشرفة وشجاعة ومبدئية في دعم ونصرة الشعب الفلسطيني في نضاله المتواصل على امتداد سبعة عقود ونيف ضد الاحتلال الصهيوني الغاصب، فمن فتاوى كبار مراجع الدين، إلى المشاركة المباشرة للجيش في جبهات المواجهة، الى الدعم والإسناد المادي والمعنوي بكل أشكاله ومظاهره وصوره.
فالمواقف والمبادرات العراقية لدعم ومساندة نضال الشعب الفلسطيني، كبيرة وكثيرة ومؤثرة، منذ تأسيس الكيان الصهيوني على أرضه بمباركة القوى الدولية الكبرى وخنوع وصمت بعض الأنظمة العربية، وحتى العدوان الصهيوني الأخير وما أفضى إليه من مواجهة بطولية تكللت بتحقيق انتصار تاريخي كبير للمقاومة الفلسطينية وهزيمة مذلة ومهينة للكيان الغاصب.
وبدءا من المرجعيات الدينية، مرورًا بمختلف القوى والشخصيات الحكومية وغير الحكومية، والفاعليات المجتمعية والقواعد الجماهيرية، كان الصوت العراقي واضحًا وجليًا وعاليًا في مناصرة أبناء الشعب الفلسطيني، وفي تقديم شتى أنواع الدعم والإسناد السياسي والإعلامي والشعبي، ولو استمرت المعركة وقتًا أطول لبرزت أشكال ومظاهر أخرى من ذلك الدعم والإسناد.
ولا شك أننا حينما نشهد مواقف اليوم لا بد أن نستحضر مواقف الأمس البعيد والقريب، حيث فتاوى كبار المراجع، كالمرجع الإمام محسن الحكيم قدس سره الشريف، والمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وغيرها من أشكال ومظاهر الدعم والإسناد والتأييد.
كل تلك المواقف والمبادرات تستحق الكثير من القراءات الموضوعية والتحليلات المفصلة للوقوف على أبعادها الكبيرة، ودلالاتها العميقة، ورسائلها البليغة، والتي تتمحور حول حقيقة، أن أمل التطبيع مع العراق تبدد بالكامل ولم يعد سوى وهم من أوهام بني صهيون. وطبيعي أن فشل محاولات وجهود التطبيع مع بغداد، يعني فيما يعنيه فشلًا لمجمل المحاولات والجهود الأخرى، خصوصًا بعد أن قطّع "سيف القدس" أوصال "حارس الاسوار" اربا اربا.
https://telegram.me/buratha