كانت عقارب الساعة تشير الى الثامنة والنصف من مساء يوم السبت، السابع عشر من شهر كانون الثاني-يناير من عام 1988، حين افرغ احد عناصر جهاز المخابرات الصدامي طلقات مسدسه الكاتم في جسد العلامة السيد محمد مهدي الحكيم وهو يلج بهو فندق الهلتون بالعاصمة السودانية الخرطوم، التي كان قد وصل اليها قبل يومين بناء على دعوة رسمية للمشاركة في المؤتمر الاسلامي برعاية الجبهة الاسلامية القومية التي كان يتزعمها الراحل حسن الترابي. لم يكن استشهاد العلامة السيد مهدي الحكيم بهذه الطريقة امرا غريبا او مفاجئا، فنظام حزب البعث السابق، عرف عنه تصفية خصومه واعدائه ومعارضيه بأبشع الوسائل والاساليب الدموية الاجرامية، ومن لم يكن ذلك النظام قادرا على الوصول اليه وإلقائه في غياهب السجون والزنازين المظلمة، ليتعرض الى اقسى صور التعذيب الجسدي والنفسي، فإنه كان يجند عناصر اجهزة الامن والمخابرات في داخل العراق وخارجه لملاحقته وتصفيته جسديا. وعلى امتداد اكثر من ثلاثة عقود من الزمن، بدءا من عام الف وتسعمائة وثمانية وستين وحتى سقوط نظام صدام في عام الفين وثلاثة، تعرض مئات العراقيين-حتى غير العراقيين-من مختلف التوجهات والانتماءات السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية والثقافية للتصفية الجسدية على ايدي عناصر مخابرات نظام حزب البعث. ولعل الشهيد الحكيم كان واحدا من ابرز الشخصيات التي تم استهدافها وتصفيتها بأوامر وتوجيهات مباشرة من رأس النظام الحاكم حينذاك، وهذا هو السبب الاخر لتوقع استهدافه. رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على اغتياله ما زالت بعض جوانب الحدث خافية ومشوشة فمنذ نعومة اظفاره، حمل الشهيد السيد مهدي الحكيم لواء التصدي والمواجهة للانحراف والانحلال والظلم والطغيان، وتبنى مع رموز وشخصيات دينية وفكرية عديدة منهج ترسيخ وتكريس الثقافة السياسية والدينية السليمة المرتكزة على وعي وفهم عميق لحقائق الواقع ومتطلباته، وكان رحمه الله قريبا جدا الى والده المرجع الديني الكبير الامام السيد محسن الحكيم (قدس سره الشريف) والى الشهيد السعيد اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، ومبادرا الى العمل والتحرك وتبني المواقف الشجاعة، وذلك ما اثار حفيظة النظام الحاكم، الذي اختلق للسيد الشهيد تهمة التجسس والعمالة، حيث بثت اذاعة بغداد في السابع من شهر حزيران من عام الف وتسعمائة وتسعة وستين، اي بعد وصول حزب البعث الى السلطة بأقل من عام، بيانا تضمن اتهام السيد الشهيد بالتجسس والعمالة، وكانت تلك اوضح الاشارات المبكرة الى اتخاذ القرار الحاسم بتصفيته معنويا وجسديا، الامر الذي دفعه الى مغادرة البلاد على ضوء نصائح ملحة من العارفين والمطلعين على خفايا الامور وما يمكن ان تؤول اليه من نتائج. وفي المهجر تنقل الشهيد الحكيم على امتداد ثمانية عشر عاما، بين دول مختلفة، اسلامية وغير اسلامية، حاملا على عاتقه مشروعا اصلاحيا وتوعويا شاملا ومتكاملا، ترجمه على ارض الواقع من خلال تأسيس المراكز والمؤسسات الثقافية والدينية المختلفة، ومن خلال المؤتمرات والملتقيات والفعاليات المتنوعة، ومن خلال التواصل والحوار الفاعل والبناء والعميق مع شتى النخب والمحافل والشخصيات الدينية والسياسية والفكرية والثقافية، وقد مثل نهجه الانفتاحي، وعقليته المتنورة، مفاتيح مهمة واساسية للتواصل مع الاخر، وابراز الفكر الاسلامي المعتدل بأوضح وانصع صورة. وفي كل ذلك كان نظام البعث يراقب ويتابع بقلق وتوجس وريبة تحركات السيد الشهيد، وهو يجول بين العواصم بكل جرأة وشجاعة، متحدثا بقوة وفصاحة وحكمة وعمق، وكان النظام البائد يتحين الفرصة المناسبة لانهاء ذلك المشروع المتحرك والفاعل، الى ان جاءت الفرصة في ذلك المساء الاسود بعد تخطيط وترتيب طويل. ورغم مرور اكثر من ثلاثين عاما على اغتياله، فما زالت بعض جوانب الحدث خافية ومشوشة، وما زالت بعض معالم صورة الجريمة غامضة، ومازال الشهيد الغائب حاضرا بقوة بجهاده وفكره ومشروعه ودمه.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha