عادل الجبوري||
تنطوي الاساءات والتجاوزات الاخيرة التي صدرت من اعلى قمة الهرم الحكومي والسياسي في فرنسا ضد نبي الاسلام محمد صلى عليه واله وسلم، على دلالات واشارات كثيرة تتطلب عدة وقفات وقراءات موضوعية ومتأنية، ارتباطا بتوقيت اطلاق تلك الاساءات والتجاوزات، وبمصدرها، ومن ثم بخلفياتها ودوافعها، مع الاخذ بعين الاعتبار، ان التأريخ البعيد والقريب حافل بكمّ هائل من حملات التسقيط والتشهير الغربي ضد الاسلام ورموزه ومعتقداته ومجتمعاته، مرة من خلال الباحثين والمفكرين والمستشرقين، ومرة من خلال الساسة والحكام، ومرة من خلال وسائل الاعلام ورجال الصحافة والكتّاب.
ولم يكن ممكنا في اي وقت من الاوقات التعاطي مع الاساءات والتجاوزات الغربية على السلام -كمنظومة فكرية وقيمية وانسانية عظيمة-وكأنها سلوكيات ومواقف وتصرفات عفوية، بعيدة عما يدور ويخطط في اورقة السياسة، وكواليس المخابرات، ومراكز التفكير، ومطابخ الاعلام، لم يكن ممكنا ذلك، مثلما هو من غير المعقول ولا المقبول ان يدعي احدا ان الرئيس الفرنسي ايمانوئيل ماكرون، تصرف وتحدث بعفوية ودون قصد حينما اساء وتجاوز على الاسلام ونبيه العظيم.
المبرر الظاهري لهجوم ماكرون على الاسلام واساءاته للرسول محمد(ص)، تمثل بمقتل مدرس فرنسي لمادة التأريخ يدعى "صاموئيل باتي" من قبل طالب مسلم من اصل شيشاني على خلفية قيامه-اي المدرس-بعرض الصور المسيئة للرسول محمد (ص) التي نشرتها قبل عدة اعوام ومن ثم قبل شهور قلائل مجلة (شارلي ايبدو) الفرنسية، وتناول الموضوع من باب حرية التعبير عن الرأي.
وهنا ينبغي الاشارة الى اكثر من قضية، الاولى، هي ان الرئيس الفرنسي كان قد ادلى بتصريحات استفزازية مثيرة ضد الاسلام والمسلمين، قبل وقوع حادثة قتل مدرس التأريخ، ودافع بشكل او باخر عن المجلة الفرنسية التي اساءت لنبي الاسلام، دون ان يلتفت او يهتم بحقيقة ان مبدأ حرية التعبير عن الرأي لابد ان يكون محكوما بضوابط وقيود ومحددات، وهذا ما تقوله الادبيات الغربية التي تتبنى النظرية الليبرالية في ادارة الدولة والمجتمع.
والقضية الاخرى، تتمثل في ان الاسلام يعد الدين الثاني في فرنسا، اذ تقدر الاحصائيات الرسمية نسبة المسلمين في هذا البلد بحوالي 12.7%، اي ما يعادل ثمانية ملايين ونصف المليون شخص من مجموع السكان، وهذا يقتضي ان يحظى المسلمين هناك بقدر كاف من الحرية لممارسة طقوسهم ومعتقداتهم الدينية، فضلا عن عدم التعرض للاساءات والتجاوزات من قبل ابناء الديانات الاخرى، بيد ان واقع الحال يؤشر الى خلاف ذلك، فعلى سبيل المثال تعد قضية حجاب النساء المسلمات في فرنسا من القضايا الجدلية منذ اعوام طويلة، لاسيما في اطار الجهود والتحركات المتواصلة للمؤسسات التشريعية لاقرار قوانين تمنع ارتداء الحجاب في الجامعات والمدارس واماكن العمل، بل وصل الامر بمجلس الشيوخ الفرنسي الى التصويت في اواخر تشرين الاول-اكتوبر من العام الماضي على مشروع قانون يقضي بحظر ارتداء الحجاب من قبل المرافقات للطالبات خلال الرحلات المدرسية، ناهيك عن الكثير من الاحتكاكات والتجاوزات الاجتماعية والسياسية والاعلامية البعيدة عن دائرة الرصد والتوثيق.
ولاشك ان منع مكون اجتماعي معين من ارتداء ما يرغب به من لباس، وممارسة ما يؤمن به من معتقدات، يندرج تحت اطار انتهاك الحريات، وهو ما تجنب ماكرون وقبله الكثير من زعماء فرنسا وساستها ومفكريها ومثقفيها الخوض فيه، مثلما دافعوا عن اساءات مجلة (شارلي ايبددو) وامثالها.
وطبيعي انه لايختلف اثنان، على رفض ما اقدم عليه التلميذ المراهق ذو الثمانية عشر عاما من جريمة قتل، بيد انه من المهم جدا البحث والتعمق والتدقيق في الدوافع والاسباب، لانه من غير المنطقي التوقف عند النتائج واهمال المقدمات، فلا يمكن لاي كان ان ينكر ان اغلب ما يصدر من المسلمين-وان كان بعضه ينطوي على عنف-لايعدو كونه ردود افعال لافعال استفزازية مسبقة تجاههم، فلو لم تتطاول مجلة (شارلي ايبدو) وتكرر تطاولاتها، واكثر من ذلك ينساق الكثيرون وراء اساءاتها وتجاوزاتها لما اقدم المراهق المسلم على قتل استاذه.
ولعله لايجد صعوبة ومشقة من يبحث عن نماذج وعينات شاخصة من الاساءات والتجاوزات الغربية على الاسلام والمسلمين، فمن يقلب مؤلفات بعض المستشرقين، امثال برنارد لويس، او روايات الروائيين مثل سلمان رشدي، يكتشف طبيعة التوجهات الغربية السيئة، وهكذا بالنسبة لممارسات اخرى، من قبيل ما قام به القس الاميركي تيري جونز في عام 2010 من حرق لنسخ من القران الكريم تزامنا مع الذكرى السنوية التاسعة لهجمات الحادي عشر من ايلول-سبتمبر 2001.
وثمة نقطة جوهرية اخرى، هي ان الغرب بأطاره العام الشامل، كنخب سياسية وفكرية وثقافية ومنظومات مجتمعية، لم يميز ويفصل بين اسلام حقيقي يتبنى مباديء التسامح والتعايش والاعتدال ونبذ العنف والارهاب، واسلام مشوه وزائف يقوم على التكفير والقتل والغاء الاخر، ايا كانت هوية ذلك الاخر وانتمائه وعقيدته، واكثر من ذلك، ساهم الغرب -بل كان له دور كبير ومحوري-في نشوء الجماعات الارهابية المسلحة التي اتخذت الاسلام عنوانا وغطاء لها، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، ومختلف المسميات المرتبطة بهما، وذلك الدور الغربي في نشوء الجماعات الارهابية ودعمها ومساندتها تعود جذوره الى ما قبل اربعين عاما، حينما احتل الاتحاد السوفياتي السابق افغانستان واسس نظاما شيوعيا في كابل، الامر الذي دفع بالغريم الرئيسي للاتحاد السوفياتي، المتمثل بالولايات المتحدة الاميركية وبمساندة باكستان والسعودية الى تشكيل تنظيم القاعدة، وهكذا تواصل سيناريو الدعم والاسناد ليصل الى تأسيس نظام داعش قبل بضعة اعوام.
ومن المعروف ان المنظومات الارهابية تتشكل في جزء غير قليل منها من عناصر بشرية من العالم الغربي، وقبل حوالي عامين ونصف العام، اصدرت اجهزة استخبارات تابعة لدول غربية تقارير احصائية عن اعدادد المقاتلين الاجانب في صفوف تنظيم داعش، حيث تصدرت فرنسا القائمة بأكثر من 1600 مقاتل، وبلجيكا بأكثر من 500 مقاتل، وبريطانيا بنحو 750 مقاتل، والمانيا بحدود 500 مقاتل، اضافة الى مئات المقاتلين من بلدان اروبية اخرى، كهولندا والسويد والنرويج وفنلندا والدانمارك، وكان مدير لجنة الامم المتحدة لمكافحة الارهاب جان بول لابورد قد صرح بأن "قرابة 30 الف مقاتل ارهابي اجنبي ينتشرون في العراق وسوريا"، وحذر من "مخاطر ارتكاب هجمات اوسع في بلدانهم الاصلية".
ليس هذا فحسب، بل ان مظاهر العنف والارهاب الذي تقوم به جماعات ارهابية متطرفة غير اسلامية في الغرب، باتت تتزايد وتتسع رقعتها مع مرور الزمن، ففي كل يوم تقريبا تتصدر نشرات الاخبار مشاهد اقتحام كنائس او مدارس او نوادي ليلية او قطارات المترو والباصات من قبل افراد او مجاميع مسلحة لتقتل الناس الابرياء بدم بارد.
واذا كان الغرب، يصر على تصدير وتسويق وترويج الصورة النمطية السلبية للاسلام، ويواصل اساءاته وتجاوزاته، فأنه في واقع الحال يتجه نحو تفكيك وتشضية نفسه بنفسه، والا هل من عاقل يمكن ان يتصور ان الاساءات والتجاوزات الاخيرة ستعود بمكاسب سياسية حقيقية على ماكرون الطامح للبقاء في قصر الاليزية ولاية اخرى، او انها ستساهم في تعزيز تماسك وانسجام المجتمع الفرنسي الناقم على منظومته السياسية الحاكمة، ولعل مشاهد الاحتجاجات الصاخبة لاصحاب السترات الصفراء، مازالت حاضرة في الاذهان، وان كانت قد غابت عن الميدان!.