عادل الجبوري
تعيد الأحداث الأمنية الأخيرة المتمثلة بعمليات القصف الجوي الأميركي والبريطاني التي طالت مقرات تابعة للحشد الشعبي وللجيش العراقي في مناطق من محافظتي بابل وكربلاء، ملف "الوجود" العسكري الأجنبي في البلاد الى صدارة الاهتمام، بعد أن خفت الحديث عنه، بسبب بروز ملفات وقضايا سياسية واقتصادية وصحية على قدر كبير من الأهمية والخطورة.
وانطلاقا من ثوابت السيادة الوطنية والاستقلال، فإن الوجود العسكري الأجنبي يعد أمرًا مرفوضًا ومستهجنًا على مختلف الأصعدة والمستويات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال القبول به والتكيف معه، وتجلت الارادة الوطنية بصورة واضحة وصريحة الى حد كبير من خلال قرار مجلس النواب في الخامس من شهر كانون الثاني - يناير الماضي، القاضي بإلزام الحكومة العمل على اخراج القوات الأجنبية من أراضي البلاد، وكذلك تجلت الارادة الوطنية بذلك، من خلال المطالبات الشعبية والجماهيرية المتواصلة بطرد القوات الاميركية والاجنبية على وجه العموم.
ولعل مثل هذه القرارات السياسية والتوجهات الشعبية لم تأت من فراغ، وانما هي في جانب منها كانت وما زالت وستبقى تعكس شعورا وطنيا وفهما عميقا للواقع. ومن جانب آخر، هي في الحقيقة مثلت انعكاسًا ونتيجة لسلسلة طويلة من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الاميركيون ضد ابناء الشعب العراقي على امتداد سبعة عشر عامًا، ناهيك عن وجود أدلة دامغة على دعمهم واسنادهم للجماعات الارهابية التكفيرية، مثل تنظيم "القاعدة" ثم "داعش".
فما زالت صورة المجرزة الدموية التي ارتكبتها شركة بلاك ووتر الامنية الاميركية وسط العاصمة بغداد في منتصف شهر ايلول-سبتمبر من عام 2007 ماثلة في اذهان الكثيرين من العراقيين، ناهيك عن جرائم اخرى كثيرة قد تكون أفظع من تلك الجريمة، لعل من بينها الاستهدافات المتكررة لقوات الحشد الشعبي حينما كانت تقاتل تنظيم "داعش" في مختلف مدن ومناطق العراق منذ اجتياحه لمساحات من الجغرافيا العراقية في صيف عام 204 الى اعلان النصر الشامل عليه في شهر كانون الاول-ديسمبر 2017. وحتى بعد ذلك التاريخ ايضا، واخرها قبل قصف فجر الجمعة الماضي، والذي تمثل باغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشهيد ابو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني وعدد آخر من منتسبي الحشد قرب مطار بغداد الدولي مطلع شهر كانون الثاني - يناير الماضي.
ان ما قد يبدو واضحًا وجليًا من خلال مجمل تصريحات أصحاب القرار الاميركي والتحركات العملية على الارض، هو أن هناك اصرارًا من واشنطن على ابقاء الوجود العسكري الأميركي في العراق والمنطقة، وواحدًا من أبرز الأرضيات التي تمهد وتبرر الابقاء على ذلك الوجود تتمثل باضطراب الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، والحؤول دون الوصول الى مستوى معقول ومقبول من الاستقرار المجتمعي العام.
ومن هنا تذهب بعض القراءات الى أن العدوان الأميركي يؤشر الى مخطط خطير لاحداث فراغ أمني هائل بعد تدمير عدد من مقرات الحشد الشعبي والجيش في المناطق التي تعرضت للقصف، وهي مناطق كانت لبضعة أعوام، تعد من الخواصر الرخوة أمنيًا، بل أكثر من ذلك كانت تعد من أهم معاقل الجماعات الارهابية المسلحة، كما هو الحال بالنسبة لمناطق شمال محافظة بابل وتحديدًا ناحية جرف النصر. وهذا يمهد لزحف ارهابي نحو هذه المناطق في سياق ما يجري منذ أشهر من إعادة توطين بقايا عناصر "داعش"، سواء التي كانت تحت ظل محميات القوات الأميركية غرب العراق، أو التي تدفقت من سوريا وكانت حليفة لواشنطن، وبالتالي يتم التهيئة لمسرح عمليات قادمة، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا المحور يعتبر الحزام الجنوبي للعاصمة بغداد، اذ ان المواقع التي استهدفها القصف الجوي الأميركي تدخل ضمن محور جرف النصر الذي يعد حزام أمن الوسط، ويتصل بمناطق عامرية الفلوجة والنخيب من جهة كربلاء، وبحيرات وبساتين المسيب والاسكندرية، وصولا الى المحاويل وجبلة التابعة لمحافظة بابل.
وكل هذه المناطق كانت حواضن لتنظيم القاعدة ثم "داعش"، والجبهة التي راهن عليها الأخير في زحفه نحو كربلاء والنجف ومحافظات الوسط.
وحتى بالنسبة لقصف معسكر التاجي الذي وجهت فيه أصابع الاتهام لكتائب حزب الله، فتؤكد مصادر خاصة، ان واشنطن نفسها ربما تقف وراء القصف، من خلال خلايا إرهابية متصلة بشركات أمنية أميركية عاملة في العراق، وتعمل بمعزل عن القوات الاميركية او سفارتها ببغداد، وترتبط بوكالة المخابرات المركزية (CIA) مباشرة.
الى جانب ذلك فإن واشنطن، بدلًا من أن تتجه الى سحب قواتها من العراق، تنوي نصب منظومات صواريخ باتريوت على الأراضي العراقية تحت ذريعة حماية جنودها وموظفيها الدبلوماسيين. وفي هذا الصدد أكد قائد القيادة المركزية الاميركية الجنرال كينيث ماكينزي قبل أيام قلائل، "ان الولايات المتحدة تنوي ارسال أنظمة دفاع جوي وانظمة مضادة للصواريخ الباليستية إلى العراق لحماية الجنود الاميركيين في حال تعرضهم لأي هجوم إيراني محتمل".
وكانت وزارة الحرب الاميركية (البنتاغون) قالت في وقت سابق إنها تسعى للحصول على إذن من العراق لنقل أنظمة دفاع صاروخي من طراز باتريوت إلى هناك لتعزيز وسائل "الدفاع" عن القوات الأميركية بعد الهجوم الصاروخي الايراني الذي استهدف قاعدة عين الاسد غرب الانبار في الثامن من شهر كانون الثاني - يناير الماضي.
فضلا عن ذلك، فإن واشنطن تعمل من خلال حلفائها الأكراد على تكريس وجودها العسكري في اقليم كردستان، وحتى في المناطق الغربية، هذا في الوقت الذي تحرص فيه دوما على تحريك ادواتها وامتداداتها السياسية والاعلامية المختلفة للترويع والتخويف من مخاطر تدهور الاوضاع الامنية وتعميق الانقسامات السياسية في حال غادر الاميركيون العراق بالكامل، ولا شك أن هذه البروباغاندا لا يمكنها الصمود أمام الرؤية السياسية والشعبية الواسعة والعميقة القائلة بأنه ما دام الاحتلال العسكري الأجنبي قائمًا فإن أمن البلاد سيبقى هشًا ومرتبكًا ومعرضًا للاختراق والتصدع والانهيار.
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha