عادل الجبوري
منذ توليه المنصب التنفيذي الاول في العراق، قبل حوالي احد عشر شهرا، قام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بجولات عربية واقليمية ودولية، شملت العديد من الدول، وشهدت ابرام اتفاقيات ومذكرات تفاهم سياسية وامنية واقتصادية وثقافية وتجارية، وافرزت مواقف وتوجهات ورؤى متقاربة ومنسجمة حول ملفات وقضايا معقدة وشائكة ومتداخلة، وكانت كل جولات عبد المهدي سريعة وخاطفة، يرافقه فيها عدد محدد من الوزراء والخبراء والمستشارين.
بيد ان زيارته الاخيرة للصين بدت مختلفة الى حد كبير عن سابقاتها، فالزيارة بدلا من ان تكون لبضع ساعات او يوم واحد في اقصى التقادير، من المفترض ان تمتد لاسبوع كامل، حافل باللقاءات السياسية والمؤتمرات الاقتصادية والجولات الميدانية على كبريات الشركات والمصانع والمؤسسات والمراكز الاقتصادية والتجارية والعلمية والصناعية في اشهر وأكبر المدن الصينية، فضلا عن ابرام اتفاقيات ومذكرات تفاهم، يمكن ان يكون لها اثر كبير وملموس في الواقع العراقي خلال الاعوام القلائل المقبلة.
وبدلا من ان يرافق عبد المهدي عدد محدود من الوزراء والمستشارين، تألف الوفد المرافق له الى بكين من عشرة وزراء، وستة عشر محافظا، وعدد من وكلاء الوزارات والمستشارين والخبراء في شتى المجالات والاختصاصات.
وذهب عبد المهدي، لا ليستطلع ويستكشف افاق وفرص التعاون بين بغداد وبكين فحسب، وانما ذهب وهو يحمل رؤى وتصورات وافكار عن ما يريده العراق من الصين، وما هي المسارات المتاحة، والخطوات المطلوبة ليخرج العراق من احادية الارتباط والتبعية.
وقد يبدو التساؤل عن سر الاهتمام الاستثنائي العراقي الكبير بالصين منطقيا ومبررا، في ذات الوقت الذي تبدو فيه الاجابة معقولة وواقعية، مأخوذا بنظر الاعتبار موقع الصين ومكانتها العالمي، والمسار العام لعلاقاتها مع العراق.
وهنا لابد من الاشارة الى ان الاقتصاد الصيني الذي يمتاز بالتنوع ومواكبة التطورات العلمية، ويشهد نموا مضطردا منذ اكثر من عقدين من الزمن، ويعد ثاني اكبر الاقتصاديات العالمية بعد الاقتصاد الاميركي، بناتج اجمالي سنوي يبلغ حوالي 8.8 ترليون دولار، يشجع كثيرا على فتح قنوات تواصل معه، سواء في المجالات الاستثمارية، او الاستفادة من التجارب والخبرات، وانخفاض الكلف المالية مقارنة بأقتصاديات اخرى، ومن المتوقع ان يحتل الاقتصاد الصيني المرتبة الاولى ويتجاوز الاميركي خلال الاعوام العشرة القادمة.
هذا جانب، وهناك جانب اخر، يتمثل في ان طبيعة العلاقات السياسية بين بغداد وبكين، وعموم المواقف الايجابية للاخيرة حيال الاولى، وعدم تورطها في دعم ومساندة الجماعات والتنظيمات الارهابية المسلحة في العراق والمنطقة، يشكل عاملا محفزا للحكومة العراقية على تسريع عجلة البناء والاعمار ، وتحريك الدورة الاقتصادية، وكسر مظاهر الجمود من خلال توفير بيئة مناسبة للانتاج وتقليص مساحات الاستهلاك، اذ يمكن ان تلعب الصين دورا مهما وحيويا في ذلك.
وبحسب السفير الصيني في بغداد تشانغ تاو، ووزير التجارة العراقي محمد هاشم العاني، وصل حجم المبادلات التجارية بين العراق والصين الى مايقارب او يتعدي الثلاثين مليار دولار، وانها تزداد وتتطور سنويا، بنسبة 10%.
وهذا يعني ان الصين تعد اكبر شريك تجاري للعراق، وكذلك يعتبر العراق ثاني اكبر مورد نفطي اليها، فضلا عن ذلك، فأن السفارة الصينية في بغداد، تمنح سنويا حوالي عشرين الف تأشيرة دخول لتجار ومستثمرين عراقيين.
وطبيعي ان مثل تلك الحقائق والمعطيات والارقام، كانت حاضرة على طاولة اوراق عبد المهدي وفريقه وهم يهيئون للزيارة التأريخية للصين.
وثمة من يرى ان ذلك الاهتمام الكبير من بغداد تجاه بكين، يعكس جانبا من الرؤية الاقتصادية لعبد المهدي، واعتباره الملف الاقتصادي، المدخل والمفتاح الاساس لمجمل الاصلاحات السياسية والامنية والمجتمعية في العراق.
ولا شك ان مثل هذه الرؤية تبدو صائبة وسليمة الى حد كبير، لاسيما اذا كانت الادوات والوسائل المستخدمة في معالجة المشاكل والازمات القائمة، التي تعوق وتعرقل مسيرة التقدم والنهوض، عملية وواقعية وناجعة.
وبما ان نقطة القوة الرئيسية لبلد مثل العراق، واجه ـ ومازال يواجه ـ الكثير من المخاطر والتحديات، تتمثل بتوسيع مساحات وميادين وافاق العلاقات الاقتصادية والسياسية والامنية مع اطراف وقوى مختلفة، فأن القراءة السياسية المتداخلة مع الرؤية الاقتصادية، لزيارة عبد المهدي للصين، تقول ان التوجه الجاد والعملي لبغداد نحو بكين يعني فيما يعنيه اضعافا للوجود والحضور والتأثير الاميركي في المشهد العراقي بجوانبه المختلفة، ومن بينها الجانب الاقتصادي، وهذا امر لم ولن يحصل بمحض المصادفة، وانما هو محسوب ومخطط له بدقة وروية، والا لماذا يذهب عادل عبد المهدي الى الصين بوفد كبير كما ونوعا، ويبقى هناك بضعة ايام، بينما لم يلبي دعوات متكررة من البيت الابيض لزيارة الولايات المتحدة الاميركية، رغم الالحاح المتواصل من قبل الجانب الاميركي.
وتتعزز هذه القراءة، حينما نشهد توجها مماثلا من بغداد نحو موسكو، بنفس القدر من الابتعاد عن واشنطن، لتكون موسكو فاعلة وحاضرة بدرجة اكبر في مجالين مهمين، الاول، تجهيز الجيش العراقي بمنظومات اسلحة متطورة، والثاني، تطوير الصناعة النفطية العراقية من قبل كبريات الشركات الروسية المتخصصة.
ويستند ذلك التوجه على خلفية المواقف الروسية الداعمة للعراق في حربه ضد الارهاب الداعشي.
ولايخفى على اي متابع، الثقل الكبير لكل من الصين وروسيا في المشهد العالمي، ذلك الثقل الذي يبعث على قلق مزمن للولايات المتحدة الاميركية ولحلفائها واتباعها في المنطقة، والانفتاح العراقي ـ سياسيا واقتصاديا وعسكريا ـ على هاتين الدولتين، يؤسس لسياسات ناجحة ومثمرة على المديين المتوسط والبعيد، تفضي الى بلورة حلول ومعالجات لايمكن ان تتحقق بوجود وهيمنة وانتهازية واشنطن.
https://telegram.me/buratha