خالد الخفاجي Khalid.alkhafaji@yahoo.com
شهد عهد إدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" توسعًا متسارعاً في تبني خيارات تصعيدية من خلال فرض قيود اقتصادية جديدة على دول لا تكن لها الود مثل روسيا وإيران والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية وتركيا, باعتبار العقوبات الاقتصادية هي إحدى الأدوات الفاعلة في السياسة الخارجية الأمريكية لتحقيق جملة من الأهداف السياسية والاقتصادية.
يدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخارجية الأمريكية (OFAC) حاليًا 26 برنامجًا من العقوبات الخاصة بكل بلد، كما يحتفظ بسجل يضم أكثر من 6000 من الأفراد والشركات والمجموعات الممنوعة من التعامل مع كيانات أمريكية أو شركات أجنبية تعمل في الولايات المتحدة, وإجمالاً، يقبع ثلث سكان العالم تحت طائلة العقوبات الأمريكية, فسيطرة واشنطن على السلاح الاقتصادي لا تضاهى بما تحتكم عليه من قوة اقتصادية تبلغ 27% من مجمل الاقتصاد العالمي, وهي بذلك تستطيع فرض هيمنتها على دول العالم وفرض إرادتها على دول خارج سيطرتها, او تغيير نتائج الأسباب التي أدت إلى فرض العقوبات على الدول المعاقَبَة وإخضاعها, كما يمكنها أيضا الاستيلاء على الأصول التي تمر عبر البنوك والمؤسسات المحلية وحجب الوصول إلى وول ستريت والتمويل بالدولار وابتزاز الشركات الأجنبية فعلياً من خلال وقف التجارة مع البلد المعاقَب.
برزت العقوبات الاقتصادية بشكل جلي في السياسة الأمريكية وحلفاءها بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفييتي و(المعسكر الاشتراكي) كقوة عسكرية رادعة أمام الهيمنة الغربية, فلجأت إلى ممارسة العقوبات الاقتصادية التي من شأنها أن تحل محل النزاع المسلح وتجنب العودة إلى أهوال المواجهة في الخنادق، وتم تطبيق أساليب مثل الحصار وتجميد الأصول، والقائمة السوداء كأدوات لتعزيز السلام, وما زالت فكرة أن العقوبات تعزز السلام تعشعش في أدمغة صناع القرار الأمريكان رغم ما شهده الحصار الهمجي بحق الشعب العراقي من جرائم يندى لها جبين الإنسانية ارتقت إلى مصاف التجويع والإبادة الجماعية, فالهدف الأساسي للعقوبات هو إنها تستخدم لفرض إرادة الولايات المتحدة على الدولة المعاقبة وكسر إرادتها. لقد فرضت الولايات المتحدة حظراً على الكوبيين منذ ستين عامًا, وجريمتهم أنهم قرروا أن يكونوا شيوعيين وقد أبلغتهم حكومة الولايات المتحدة بأن عليهم القيام بما يقال لهم أو لن يرفع الحصار, وعوقبت روسيا لضمها القرم مع إنها ارض روسية منحها الرئيس السوفيتي خروتشوف (الأوكراني الأصل) إلى أوكرانيا عندما كانتا دولة واحدة واستعيدت بموجب استفتاءا شعبيا, وعوقبت إيران لنشاطها النووي, مع تأكيد المنظمة الدولية للطاقة الذرية بسلمية مفاعلها, إلا إن الرئيس الأسبق "بوش" استغرب من سعي إيران لامتلاك المفاعلات النووية مع امتلاكها الخزين الهائل من النفط, وبرأيه إن من يمتلك النفط لا يحق له امتلاك ناصية العلم النووي حتى للأغراض السلمية.
إن التقييم الموضوعي يقودنا الى حقيقة أن العقوبات تفشل في تحقيق أهدافها في أغلب الأحيان، وأن عواقبها الجسيمة لا تستحق المكاسب الضئيلة المتحققة, حيث أن الإفراط في استخدام العقوبات أصبح مصدرا رئيسيا لعدم الاستقرار الدولي, ويخلق تنافسا دوليا محموما على المصالح, كما ان العقوبات الاقتصادية هي نوع من أنواع العقاب الجماعي والإبادة الجماعية المدانة في القوانين الدولية, إضافة الى إنها تتسبب في تفاقم الكراهية بين الشرق والغرب وتمكين التنظيمات المتطرفة والأجهزة المخابراتية من تطويع الفعل ورد الفعل لصناعة الإرهاب, إيران مثلا عدت فرض العقوبات بأنها خلق "حالة حرب", فيما وصفها المسؤولون الروس بـ "الحرب الاقتصادية" وتعهدوا بالرد "بوسائل أخرى", فيما اعتبرت كوريا الشمالية عقوبات الولايات المتحدة والأمم المتحدة بمثابة "إعلان حرب".
في الغالب فان تكاليف العقوبات لن يتحملها الاقتصاد الأمريكي ودائما تحول تكاليفها إلى الحلفاء لدفعها. في حالة روسيا، لم تعزز العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية على ما أسمته "الأوليغاركيين والنخب السياسية" من خسائر بقدر ما تحمل الاتحاد الأوروبي من دفع ثروة طائلة لتنفيذ الخيارات الأمريكية في محاصرة روسيا, وأخفقت بلغاريا في الحصول على أي تعويض من الولايات المتحدة نتيجة منعها مرور أنبوب غاز السيل الجنوبي الروسي وخسرت عوائد مرور تقدر بأكثر من "600" مليون دولار سنويا,, كما إن محاصرة إيران وغلق الأسواق العراقية أمام تدفق بضائعها حولت فاتورته إلى العراق لتعويض الأردن عن ثمن البضائع المدعمة لتكون قادرة سعريا على منافسة البضائع الإيرانية. من السخرية إن الولايات المتحدة تستثني نفسها من أي عقوبات قد تتسبب بالضرر على اقتصادها, فهي مازالت تستورد محركات الصواريخ من روسيا لكفاءتها, ومازالت تستورد النفط من فنزويلا لقربه وانخفاض تكاليف النقل والشحن.
إن الاستخدام العدائي المتعمد لقوة العقوبات الغاشمة دفعت العديد من دول العالم إلى الانتفاض, لقد أعطت لروسيا حافزًا هائلاً للتعاون مع الصين والهند وإيران وتركيا واليابان وكوريا, والتحول نحو آسيا, وانفجر مستوى الأعمال التي قامت بها هناك إلى مستويات غير مسبوقة, واستطاعت تطوير قدراتها الخاصة, فبالإضافة إلى كونها من اكبر مصدري للنفط في العالم واكبر مصدر للغاز دون منازع, فهي تعد اليوم المصدر الأول للحبوب في العالم, وخفضت مؤخرًا معظم احيتاطياتها من سندات الخزانة الأمريكية (لتصل قيمتها إلى 150 مليار دولار) وتستبدله بالذهب، وهي تتحرك بثبات نحو إلغاء الدولار عن اقتصادها، واستبدال الدولار الأمريكي بالعملات المحلية في جميع التبادلات التجارية الخارجية. دول أخرى، بما في ذلك الصين، قد تتبع المهادنة عن طيب خاطر وهي قادرة على فرض العقوبات على الولايات المتحدة إن أرادت وتقصي الاقتصاد الأمريكي من تفوقه العالمي باستغلال اختلال الدين الخارجي للولايات المتحدة، والتي تحتل الصين الجزء الأكبر منه (1.3 تريليون دولار). وإذا ما توقفت الصين عن شراء سندات الخزانة الأمريكية وبدأت في طرحها فهذا قادر على تعريض الاقتصاد الأمريكي للإفلاس والانهيار.
لمواجهة الغطرسة الأمريكية وكبح جماحها لابد من بناء التحالفات الاقتصادية والتكتلات الدولية القائمة على الظلم المشترك ووضع الخطط المحكمة لبناء اقتصادياتها, والتخلي عن العملة الأمريكية في التبادلات التجارية, انتهاء بتحقيق الهدف طويل الأجل وهو التخلص من الدولار الأمريكي كعملة احتياطي رئيسية والتخلص من كل أزماته وتقلباته.