شهود عيان يروون مآسي مدينة الدجيل على يد المقبور صدام وعصاباته
متابعة ـ علي عبد سلمان
كانت هنا مدينة عرفت باسم «عنق الهوا»، ثم باسم «عكبرا» أو«الإبراهيمية» أو «السميجة» (السمكة الصغيرة)، كما أحب أهل الدجيل أن يسموا مدينتهم، لأنها تشبه جسد السمكة. هذه المدينة الواقعة على بعد 50 كيلومترا شمال العاصمة بغداد، تحولت من مدينة تمتلئ بالبساتين والخضرة والجمال إلى مدينة للموت، عندما قرر صدام أن يمحوها بجرة قلم، اثر محاولة لاغتياله عام 1982. قبل يوم من محاكمة المقبور صدام، وهو نفس اليوم، حسب التقويم القمري، الذي بدأت فيه الاعتقالات، بعد يوم واحد من محاولة الاغتيال، فقد حدثت محاولة الاغتيال في السادس عشر من رمضان، وفي اليوم التالي بدأت عمليات الاعتقال والقتل والهدم وتجريف البساتين. سكان الدجيل كلهم يحفظون هذا التأريخ. ولم تعترضنا المخاوف من ذكر الحكايات، كما حصلت مع أصحابها، وكان كل أهل الدجيل شهودا عيانا على ما حصل، في مساء يوم الخميس الأسود، الذي أطل فيه صدام عليهم، وأعلن غضبه بعد محاولة اغتياله.
تمتلئ عينا حسن إبراهيم حمزة بالدموع، وهو يتذكر تفاصيل الحادثة، ويشير بيديه إلى مكان وقوع محاولة اغتيال صدام في ذلك العام، الذي قررت فيه مجموعة من شباب أهل الدجيل، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، تنفيذ محاولة اغتيال صدام حسين، عندما دخل المدينة بسيارات مدرعة ودبابات وأسلحة غريبة الصنع والشكل، لم يكن أهل المدينة قد أبصروها فيما سبق.
يقول حسن الذي يتولى الآن منصب نائب رئيس المجلس البلدي في قضاء الدجيل، إن «صدام دخل المدينة، وكان قد أعد العدة للأمر، وكأنه يعلم بالتفاصيل التي ستحصل، وما أن اطلقت العيارات النارية باتجاه موكبه، حتى ردت الحمايات الخاصة به على أماكن الرمي وسقط من سقط شهيدا، وبعد فترة قصيرة لم تتجاوز النصف ساعة، اعتلى صدام حسين بناية المركز الطبي، الذي ادخل فيه بعض افراد الحماية لتلقي العلاج، إثر اصابات في العملية، وهدد أهل الدجيل بالانتقام».
يقول (ع، د) ، وهو أحد ممثلي أهالي السجناء السياسيين في تلك الحادثة، في إحصائية يبدو أن كل أهالي الدجيل يحفظونها عن ظهر قلب إن «عدد الشهداء 259 شهيدا، وعدد الذين أعدموا في محاكمة واحدة 143 وفي محاكم أخرى اعداد أخرى أيضا، وعدد المحجوزين اثر عملية الاغتيال 612 اعتقلوا في مديرية أمن الدولة، وعدد الأسر المعتقلة 78 وعدد الأسر التي قتل رجالها بالكامل 5، وعدد الذين ولدوا في السجن 13 ومساحة الأراضي الزراعية التي اتلفت بعد الحادث 16 ألف دونم، وهناك حي بأكمله أيضا تمت ازالته هو حي الوحدة، وبيوت أخرى هدمت على رؤوس أهلها» ، ويذكر أيضا أن القتلى لا قبور لهم، وهناك من مات في السجن أو في صحراء السماوة.
محمد حسن محمود والده أحد شيوخ العشائر في القضاء، وهو يشغل منصب قائممقام الدجيل الآن، يقول إن الأحداث بدأت بعد صعود صدام الى السلطة، حيث بدأ أول اعتقال جماعي، وكان من بين من اعتقل أفراد عائلة محمود المجيد، التي أخذ رجالها بالكامل، بعد أن رفض والدهم هدية مقدمة من صدام ، عندما قال له إن هناك فقراء هم أكثر حاجة لها. وكان عنوان الحجز حجزا احترازيا، ابتدعه صدام حسين كما يقول ، الذي كان هو أيضا بين المعتقلين، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. واستمرت الاعتقالات إلى حين مجئ صدام إلى المنطقة عام 1982، حيث تم القاء القبض على 1450 شخصا من أبناء الدجيل، الذين لم يكن عددهم يتجاوز 4000 نسمة، وقد رحلت الأسر والأشخاص من غير المعدومين إلى مقرات المخابرات وسجن ابو غريب، ثم إلى صحراء السماوة، واسكنوا في العراء ثلاث سنوات، وهناك العديد منهم مات من شدة الجوع أو المرض أو الظروف البيئية السيئة، وكان المجمع في عهدة مديرية أمن السماوة وبتوجيه من برزان التكريتي، وتمت ازالة 16 الف دونم من الأراضي والبساتين، بتوجيه وإشراف من قبل المقبور طه ياسين رمضان، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تمت ازالة أهم معلم من معالم مدينة الدجيل، وهو نهر الدجيل الذي يمتد عمره إلى 2500 سنة قبل الميلاد، وتم تبليط شارع فوق النهر، وهو ما اعتبره أهل المدينة «حالة الإعمار» الوحيدة، التي قام بها صدام في هذه المدينة.
بين الضحايا كان الطفل محمد جميل أيوب، الذي لم يتجاوز عمره يومها السبع سنوات، وتم اعدامه بعد أن عدل عمره إلى خمس وعشرين عاما، ليشمل بقرار الاعدام مع اخوته الآخرين، حسبما أفادت عائلته، التي لم يتبق منها سوى بضعة أقارب في مناطق متفرقة من الدجيل. ولم تختلف حالة محمد عن حالة نجم عبد جواد، فهو الآخر لم يتجاوز عمره يومها الثماني سنوات، وعدل عمره ليشمل بالاعدام، الموقّع من قبل صدام.
ثائر حسين ياس من عشيرة الخزرج، كان عمره في ذلك الوقت 11 عاما، وقالوا له ان صدام حسين يزور المنطقة. يقول «خرجنا نركض لا ندري ما القضية، وبالقرب من مدرسة الدجيل، وفوق مبنى مستوصف الدجيل وجدنا صدام واقفا ويقول: هذه الطكطاكات ما تفيدكم، ولن ننسى ما حصل. قالها بعصبية ونزل من أعلى البناية، وكان يتجمع حوالي خمسين شخصا، وفي نفس اليوم بدأت حملة الاعتقالات، وبعد عشرين يوما جاؤوا الى بيتنا واعتقلوني أنا وكل أفراد عائلتي قائلين لنا، ان لديهم استفسارا في مقر الحزب، ثم اخذونا في سيارات كتب عليها «موطا» (آيس كريم) لذيذة، حشرنا فيها مع عائلتين أخريين وأخذونا الى مديرية الأمن والحاكمية، وبقينا في المخابرات 11 يوما، ونقلنا إلى أبو غريب، وقد كبرنا في السجن وكانت الملابس لا تسعنا، ولم نكن نعرف مصير اخوتنا الكبار، وبعد ذلك أخذونا الى منطقة بصية جنوب السماوة، وهي صحراء وهناك أبنية من الصخر، بقينا فيها ثلاث سنوات، وكانت معنا أسر كثيرة من أهل الدجيل، وقد مرض الكثير من كبار السن وتوفوا هناك، ولم نعرف لماذا عذبنا وقتل أقاربنا ونحن لا نعرف أي شيء عن السياسة في وقتها».
علي جواد كاظم الزبيدي قال «عند حصول الحادثة، كنت مدرسا في الكاظمية، ولكن أهلي وأقاربي وعشيرتي يسكنون الدجيل. وبعد الحادثة اعتقلت الأسر بالجملة، ومنهم عائلة أخي الأكبر عبد جواد كاظم، وعددهم ثمانية أشخاص، وكنا نتوقع أن يخرج أحدهم ليقول لنا ما الذي حصل للجميع، ولكن العائلة أبيدت بالكامل في قرار الاعدام الموقع من صدام، وكان من ضمن المعتقلين محمود ونجم الدين وهما طفلان، تم تغيير اعمارهم الى 25 سنة، وأعدما مع الجميع وصودرت الأموال المنقولة وغير المنقولة، وحفظت العقارات للبيع، وقد شارك عمليا بالانتقام برزان التكريتي وطه الجزراوي».
الطفلة أمل والطفلة زينة لم نستطع لقاءهما، ولو كانتا موجودتين، لكانتا الآن بعمر الشباب، وربما كانت إحداهما تعمل في مستشفى القضاء أو معلمة في المدرسة، فقد توفيتا وهما لم تكملا الثلاثة اشهر من عمرهما في سجن أبو غريب بسبب فقدان الدواء والحليب، بعد ان ولدتا في السجن ايضا، اثر اعتقال والديتهما في منطقة الدجيل.
30/5/514
https://telegram.me/buratha