محمد آل عيسى
لم تكن ظاهرة التدريس الخصوصي ظاهرة جديدة ولدت في العراق بسبب الظروف التي مر بها ويمر بها البلد على إختلافها السياسية والأمنية والإقتصادية بل أن التدريس الخصوصي ظاهرة عالمية لا يمكن أن نقول أنها وليدة العصر أو الظروف.فقد كانت موجودة في العراق حتى في الستينات من القرن العشرين , فكان هناك طلبة يلجأون إلى المدرّسين الخاصّين بسبب ضعفهم ببعض المواد الدراسية , فيشمّر المدرّس عن ساعدية لينهض بهم من خلال إعادة شرح المادة وتكثيف التمارين لتعويدهم على طرق الحل المختلفة وهكذا , فيأخذ المدرس أتعابه لقاء ما بذله من الجهود ويدخل الطالب الإمتحان ليدلي بإجابته بعد أن بذل جهداً مضاعفاً لرفع مستواه العلمي فيحصل الطالب على النجاح ويحصل الأستاذ على لقمة عيش إضافية يأكلها حلالاً زلالاً.
لكن الذي حصل في السنين الماضية ويحصل الآن مختلف جداً حيث أن المدرّس في العراق مرّ بظروفٍ عصيبةٍ جداً كان راتبه الشهري كراتب أي موظف لا يكاد يكفي لشراء طبقة بيض!!!! كما هو معلوم لدى الجميع مما حدا بالمدرّس أن يفكّر بوسيلة عيش أخرى تخرجه من الأزمة , فتوجه البعض منهم إلى التجارة وإلى الكسب خارج النطاق التعليمي أو بعد إنتهاء الدوام وفي أيام العطل الرسمية والدراسية .
أما البعض الآخر الذي لا يعرف سوى التدريس كوسيلة لكسب اللقمة بدأ يفتح باب التدريس الخاص لطلبته لعل ذلك ينعش وارده الشهري فيرفع عن كاهله متطلبات العيش التي يخجل راتبه الشهري الحكومي أمامها .
ومع الأيام تزداد الإحتياجات وتتمرّض النفوس وتتعود على مستوى من العيش لا ترضى به طويلاً بل تسعى لتحسينه ورفعه بشتى الوسائل بدأ التدريس الخصوصي يجانب الحلال والمبادئ ويبتعد عنها شيئاً فشيئاً .
فتحول الأستاذ إلى وحش أليف يضغط على زبائنه الطلبة كي يُجبروا على التوجه له فيدرّسهم فينجحوا بأتعابهم ويحصل هو على أتعابه الملوثة بالحرام .وللأسف لم يستمر الوضع على هذه الحال بل تحول الأستاذ إلى وحش كاسر يتقصد بعدم إنجاح طلبته كي يتوجهوا إليه فلا يدرسهم بل يأخذ منهم ما يجبرهم عليه ليعطيهم بدوره النجاح الذي لا يستحقوه بدراستهم بل بأموالهم ببيع الأسئلة تارة وبوضع إشارات بالدفاترالإمتحانية تارة أخرى ويحصل على أمواله التي تحولت كلها إلى حرام وإلى أموال سحت.فيضطر أولياء الأمور صاغرين منصاعين لما يفرضه عليهم من كاد أن يكون رسولا باذلين له ما يريد من الأجور لا ليدرّس أبناءهم فينتفعوا بل لينجّح أبناءهم فيفرحوا .
وتوالت الأشهر والسنين حتى أصبح الطالب الذي لا يأخذ الدرس الخصوصي طالباً شاذاً يتعجب منه زملاؤه وأصبح التدريس الخصوصي حاجة لا بد منها في المجتمع .أمّا أولياء الأمور فأولادهم أعز من أرواحهم لا يتعاملون مع الموقف إلا بما يوافق العاطفة فيبخلون على أنفسهم في سبيل أولادهم .وحينما يصل الطالب إلى الصف السادس الإعدادي تلك المرحلة المصيرية ينصدم الجميع بالمصيبة التي حلّت بهذا الطالب المسكين , فمن حيث المستوى العلمي فالطالب لا يكاد يفهم أو يعي شيئاً مما درسه حتى أني وبحكم الإختصاص سألت أحد طلاب السادس العلمي عن مساحة الدائرة فأجابني أن مساحة الدائرة تساوي الطول مضروبا في العرض مضروبا في الإرتفاع!!!!!!بل أسوأ من ذلك فهم وبعد أن وصلوا السادس العلمي فما زال الكثير منهم لا يعرف حتى جدول الضرب !!! ذلك الذي من المفترض أن يكون ضمن دراستهم الإبتدائية .
فيهرع الأهل كما هو معتاد إلى التدريس الخصوصي واضعين لولدهم أساتذة في كل المواد كي لا يقصّروا بحق فلذة كبدهم ويبرئوا ذمتهم أمام ولدهم والناس وليحصل قرّة عينهم على معدل يكون إما طبيبا أومهندسا ولا غير ذلك !!!!
أمّا الطالب فهو بدوره يريد أن يبين لأهله أنه مواضب على الدراسة كما يريد أن يستعطف الآخرين من حوله ويريح ضميره فتراه خارجا من بيت الأستاذ )س( داخلا في بيت الأستاذ )ص( من الصباح حتى المساء ليعود إلى داره فينام .
وهنا ضاع الطالب ما بين منهجية الأستاذ في المدرسة (إن كان من الذين يدرّسون) وبين الأستاذ الخاص بل لن يجد الطالب الوقت الكافي لكي يراجع ما يعطيه إيّاه فلان وفلان من الأساتذة .
إني أمثّل الطالب كعامل المكتبة الذي تأتيه كتب كثيرة وتتكوم أمامه ولا يجد الوقت الكافي لوضع كل كتاب في مكانه المخصص ليجده حين يريده فكذلك الطالب الذي يرهق نفسه بالكثير من الدروس الخاصة و لا يجد متسعا من الوقت الذي يراجع فيه ما تعلمه .إن المنهجية الصحيحة في التعلّم أن يبذل طالب العلم جهده ويتعب لتحصيل المعرفة العلمية لترسخ بباله وتثبت لديه فلا تنسى .وليس من الصحيح أن يجلس فاتحا أذنه لسرد الأستاذ كالذي يفتح فمه ليُطعمَ الطعام بالملعقة ولا يعرف كيف جاء .
لقد كان آباؤنا على بساطتهم يوصونا أن نمسك بيدنا القلم ونمارس حل المسائل والتمارين واحدا بعد الآخر لنعتاد عليها لا أن نقرأ الحل الجاهز كما تُقرأ الصحيفة .
أننا اليوم أمام أزمة حقيقية عناصرها الأستاذ من جهة وولي الأمر من جهة أخرى والطالب ثالثهم , وأرى أن الحل بشكل أساسي يعتمد على التوعية المتوجهة لكل الأطراف لولي الأمر والطالب من جهة كونهم المنتفعين بذلك وللأستاذ كونه أباً ومرشداً وقدوة عليه أن يبني سمعته ويحافظ عليها ولا يأتي لأسرته إلا بلقمة الحلال وإن قلّت وأن يبتعد عن لقمة الحرام وإن كبرت .وهذا الطريق وإن طال وإن كانت نتائجه غير مباشرة فلا بد من ثمرة بعد الصبر.
وإن كان لعملية المتابعة وفرض التبعات دور لكنه سيدفع المشكلة وقتياً ولا يقلعها من جذورها وإن كان تأثيره مباشراً وأسرع
كما إن دوائر التعليم الحكومية قد وصلت إلى الحد الذي لا يرجى لها الصلاح في الوقت الحاضر ولا بد من البديل الذي يُنشأ على أسس سليمة وقويمة من اليوم الأول ويستمر على ذلك كما تجد بوادره التي مازالت في مخاضها متمثلة بالتعليم الأهلي الذي بدأ يشق طريقه منافساً للتعليم الحكومي وما زال أمامه درب طويل ليثبت جدارته .بالتأكيد ليس من السهل أن يتم تجاوز هذه العقبات والقضاء على كل هذه الظواهر لكن ذلك ليس بالمستحيل بشرط أن تتظافر الجهود حتى يتحقق المنشود والله نعم الولي ونعم المقصود.
https://telegram.me/buratha