مجلة الاوقات العراقية
يمضي وزير التخطيط السيد علي بابان نحو خمسة اعوام في الحكومة المنتهية ولايتها، وهي اول تشكيلة تكمل دورة دستورية منذ التغيير السياسي عام 2003. وخلال مقابلة مع "العالم" هي بمثابة "شهادة" حول عمله مع باقي الوزارات طيلة هذه الفترة، لا يخفي الوزير ألمه من مآل الواقع الاداري الذي يمر بأسوأ ظرف "عبر التاريخ" ويجعل من الصعب انجاح اي خطة او مشروع. لكنه يقول ايضا ان المنتسب لهذه البلاد يشعر "بعمق تاريخها" وفي وسعه ان يتذكر نماذج عديدة للنجاح حصلت في الماضي على هذه الارض، ويمكن ان تتكرر.
ولا يتردد الوزير في القول بأن وزارة التخطيط "لم تقدم ما كان متوقعا منها، لأن الاستقرار شرط لنجاح التخطيط، بينما لم نخرج من قالب الفوضى منذ 2003".
وهو يقول ان المعنيين "لم يعودوا يصغون الى وزارتنا كما كان الامر في السابق، والبعض ينظر الينا بوصفنا من مخلفات الحقبة الاشتراكية، وكان هناك توجه منذ الاحتلال بإلغاء الوزارة لكن الامر انتهى بتقليص كبير لصلاحياتنا".
ويتحدث كيف اصبح لوزارة التخطيط شركاء كثيرون في عملية وضع الخطط، "فحتى الامانة العامة لمجلس الوزراء صارت تتدخل، وهذا مربك لجهودنا وخططنا"، مبينا ان التعاون بين مؤسسات الدولة "مجرد امر شكلي". يقول بابان ان وزارة التخطيط يفترض ان تكون العقل الاستراتيجي للاقتصاد والادارة العامة، لكن ما يعيقها هو فوضى اتخاذ القرارات والبيروقراطية وروتين الدوائر الذي يعيق التنفيذ بسبب سلسلة المراجع الطويلة بين المسؤول الاعلى والمسؤول المنفذ.
نزيف الخبرات
يتابع الوزير ان روتين الدوائر "يختزل فوائد الخطط والقرارات" فما يتبقى بعد تلك المراحل، أمر بسيط تكتنفه "ضعف الخبرة ومشاكل الفساد". لكنه يشكو من حكاية اكثر مرارة. فقد نزف العراق خيرة رجاله الذين غادروا بأعداد كبيرة خلال الاعوام الماضية، "ووزارة التخطيط كانت تضم افضل العقول العراقية لكننا لم نحافظ الا على عشرة في المائة من الخبرات تلك" حسب قوله. ويقول "نواجه صعوبة في اقناع المهاجرين بالعودة لأنهم يعملون اليوم في وظائف استشارية مع شركات كبرى وليست لدينا التخصيصات المالية الكافية لإقناعهم بالعودة، فلوائحنا لا تسمح لنا باستعادة من هاجر او تقديم مبلغ يقنعه بالمخاطرة في الظروف الامنية الحالية".
وبدون استعادة الخبراء لا يمكن التغلب على التحديات التي يواجهها العراق، فالخبراء لا يعودون الا اذا تعافى البلد أمنيا وسياسيا.
ويضيف "لا استطيع ارغام الخبراء على العودة، لان المواطن البسيط يفكر بالهجرة اذا اتيحت له الفرصة فما بالك بالخبراء، لاني لا استطيع توفير الأمن ولا الدخل المناسب".
الفراغ يشل الخطة الخمسية
يقول بابان "لم ينصت احد الى مقترحاتنا بشأن القضايا الخطيرة، والخبراء يواجهون صعوبة في اقناع مجلس الوزراء بجدوى دراساتهم. صحيح اننا نجحنا في اقرار الخطة الخمسية للبلاد، لكن الفراغ السياسي وكون الحكومة منتهية الولاية، منع من اصدار قانون خاص لهذه الخطة، يمكنه إلزام الوزارات باعتمادها. مع ان الخطة تعد منجزا اساسيا خاصة وانها ركزت على قطاع الطاقة وحل مشكلة الكهرباء وتأهيل القطاعات الانتاجية".
ويتابع "لا بد ان اقول كلمة بحق رئيس الوزراء نوري المالكي، وانا هنا لا ادافع عنه، اذ يمكن ان يبقى في منصبه او يتغير، الا انه كان متحمسا للاقتصاد وتطويره، والمشكلة انه انشغل كثيرا بهموم الامن والاقتصاد".
وحسب الوزير فإن "معاكسات السياسة تذهب بالحكومة يمينا وشمالا. كان هم الحكومة تثبيت الامن والحيلولة دون انزلاق البلاد نحو حرب أهلية يسفر عنها ضياع العراق. لذا كان من الطبيعي اعطاء الاولوية للأمن ودفع الاقتصاد الثمن".
وهو يعتب على النخبة السياسية "المشغولة بالامن عن الاقتصاد". ويقول انه كان يدعو لاعطاء الاقتصاد الاولوية لانه كفيل بحل التحديات الامنية، فالفقر والبطالة وفقدان الخدمات اسباب تدعو البعض للتوجه الى التطرف والعنف.
ويقول ان اداء الحكومة في ادارة الثروة خطأ، فالبيروقراطية والفساد يتحملان مسؤولية عرقلة المشاريع، وتخبط الاداء الحكومي. وكشف انه أخبر رئيس الوزراء منذ ايام "ان الادارة الحكومية في اسوأ حالاتها منذ تأسيس الدولة العراقية".
دبي تقلد العهد الملكي
ويسترجع بابان صور الماضي يوم كانت الادارة العراقية يضرب بها المثل، "وعلى سبيل المثال فالعراق كان اول دولة تحصل على قرض من البنك الدولي، وكان لدينا مجلس اعمار نفذ عشرات المشاريع من عائدات بسيطة جدا، اثمرت مصانع وسدودا ومشاريع اسكان وطرقا وجسورا في غضون سنوات معدودة".
فقد اصدرت الدولة في العهد قانونا يقضي بتخصيص 75 - 80 % من عائدات النفط لتصرف على المشاريع فيما وتبقى 20 % للنفقات. اما اليوم "فقد انعكست الاية، فهناك 80 % من اموال النفط تصرف على نفقات الدولة والرواتب، و20 % للاعمار".
كانت تجربة مجلس الاعمار من افضل التجارب في الدولة العراقية، وهناك دول عديدة طبقت تجربة العراق، "فدبي اقتدت بتجربة مجلس الاعمار العراقي وأسست مجلسا للاعمار".
ويقول ان ما نصرفه في الموازنة الاستثمارية لا يساوي عشر ما يحتاجه العراق، ولكي نعيد بناء البنية التحتية نحتاج الى نصف ترليون دولار.
ومن الاقوال المهمة للخبراء والتي يجب ان تنصت اليها الحكومة وفق ما يقول السيد بابان، هي اننا نردد منذ اربع سنوات ان حل مشكلة الكهرباء يتلخص بالخصخصة، "فحتى دول الجوار الثرية ماضية في خصخصة قطاع الكهرباء كالسعودية والامارات، هل يعقل ان نتردد نحن في هذا الأمر؟".
يرى بابان ان مشكلة الموازنة "مزمنة منذ 2003"، لانها تركز على النفقات التشغيلية ولا يخصص للاستثمار الا القليل. ويقول ان وزارة التخطيط كانت تعترض بشكل دائم على ملف الموازنة، لكنه لا يلوم وزارة المالية "لانها تحت ضغط" لان الناس تريد تعيينات وبطاقة تموينية ومن الصعب غض النظر عن هذه المتطلبات.
ويتطلب الامر اعادة هيكلة الاقتصاد لا سيما في ما يتعلق بالموازنة التشغيلية، ويقول انه يمكن تحويل الموظفين الزائدين الى المشاريع الجديدة. ويوضح "70 % من موظفي الدولة بدون عمل حقيقي، وبدون انتاج حقيقي، وطبعا لا يمكن تسريحهم، فالحل يكون باعادة هيكلة العمالة في الدولة وتوجيه الموظفين نحو المشاريع الجديدة في القطاعات الانتاجية سواء في القطاع الخاص ام العام. عندها سيكون لدينا منتج حقيقي".
وتابع "حتى شبكة الحماية الاجتماعية ينبغي ان نحولها الى مشروع قروض صغيرة انتاجية، بحيث ان العاطلين بدلا ان يكونوا عالة يكونون منتجين". ولا يتفق بابان مع ما يقال من ان البنك الدولي يريد تحول العراق الى بلد مستهلك، ويضيف ان وصفة البنك الدولي للعراق "سليمة، لقد قالوا لنا ركزوا على القطاعات الانتاجية وخففوا الانفاق الحكومي. هذه وصفة تدعو الى تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الاجنبي، وتدعو الى الانفاق على المشاريع لا على المؤسسات، وهذا صحيح".
ويعتقد بابان ان نسب تنفيذ مشاريع ميزانية 2010 أفضل من السنوات الماضية. لكن الانفاق الحكومي ليس كل شيء في الاقتصاد، فهو جزء، بينما الجزء الآخر لا بد ان يأتي من القطاع الخاص، "فالدولة انفقت وتنفق وليس لديها اي مشكلة، ولم تتلكأ في الانفاق ابدا، وارقام وزارة التخطيط تثبت ان الانفاق الحكومي في وضع جيد".
اما بالنسبة لإقرار ميزانية 2011، فيعتقد الوزير انه يجب على الحكومة ان تجد وسيلة لاقرارها عبر عقد جلسة استثنائية للبرلمان مثلا. ويأمل ان يتضح الوضع الحكومي قبل هذا التاريخ.
وضع الموصل لا يسر
الوزير الذي استوطن بغداد منذ صغره، يقول ان مدينته الموصل لا تعيش وضعا "يسر ابدا". ويضيف "هناك متشددون عرب ومتعصبون اكراد اصبحت المدينة ضحية لصراعهم، والمدينة اسيرة لعصابات تأخذ اتاوات حتى من بعض الدوائر الحكومية، والجميع يدفع لهم نتيجة الخوف".
وهو يعتب على الحكومة لأنها "لا تحرك ساكنا، لأن الملف تكتنفه حساسيات متعددة، والمدينة تقطعت اوصالها بالحواجز الامنية التي عقدت حياة الاهالي وقطعت ارزاقهم".
وعلى مستوى دوائر الدولة فإن الموصل هي صاحبة "اوطأ نسبة في تنفيذ المشاريع" بحسب بابان، حيث لا يتعدى المنجز 2 في المائة، بينما يصل التنفيذ في بغداد الى 40 في المائة.
وهو يذكر بالتقارير التي تتحدث عن ابتلاع الرمال لعشرات البلدات والقرى في الموصل، بسبب الجفاف، ويقول ان الدولة لا بد ان تقوم بخطوة كبيرة لهذه المحافظة الاستراتيجية.
ويرى بابان ان دجلة والفرات اكثر اهمية من النفط. لكن الدولة العراقية "تنازلت منذ 30 عاما عن نهري دجلة والفرات وتنازلت عن حقوق العراق، صمتت امام مشاريع الري التركية التي ذبحت العراق. العراق لم يدافع عن حقوقه المائية وانتهى بنا الى كارثة والقادم اعظم، لان تركيا تواصل بناء السدود تلو السدود، واذا استمر الوضع كما هو عليه فالعراق مقبل على مصيبة كبرى".
ويضيف ان تاريخ العراق لم يرتبط يوما ما بالنفط، وانما ارتبط بدجلة والفرات، وحضارته ارتبطت بهذين النهرين. "والتهديد المائي هو اعظم تهديد يواجه الكيان العراقي في العقود القادمة".
مخصصات الساسة كبيرة
يقول الوزير ان شعور المواطنين بابتعاد الطبقة السياسية عن هموم الناس "فيه شيء من الصحة". وهو يعتقد ان من الضروري ان ندفع الاجور الكافية لكبار الموظفين، "فعندما تضع شخصا في مكان ما يجب ان ترضيه، والرضا سبب لنجاح العمل، ونحن في وزارة التخطيط نتفنن في اعطاء الموظف مكافآت وعلاوات حتى يعمل بشكل صحيح".
لكن بابان يعترف بأن "المخصصات المالية التي تصرف للرئاسات كبيرة، اذ توضع تحت تصرفهم اموال طائلة ابتداءً من رئيس الجمهورية ونوابه، ثم باقي الرئاسات". الوزير يقول ان بعض الساسة يتذرع بظروف الامن والسياسة في تبرير العجز عن تقديم شيء للمواطن. ويعتقد بابان "ان مستقبل العراق عليه علامة استفهام، واليوم هناك حديث عن اقاليم وعن تقسيم او صراع طائفي مقبل.. وعندما يكون مصير البلد مجهولا لا يكون هناك من يفكر باقتصاد ولا تنمية، فالعراق يعيش غليانا وفوضى، وطبيعي ان لا يعار الاقتصاد أهمية تذكر".
ويضيف "كل مكون يريد تصميم العراق وفق رؤيته ومشروعه الايديولوجي، والاقتصاد لا يحظى بأهمية حتى وان تم الحديث عنه من قبل بعض المسؤولين، فالحسابات السياسية والايديولوجية تغلب الحسابات الاقتصادية".
وزاد "النفط وبدلا من ان يوحد العراق أصبح أداة لاذكاء الصراعات. كردستان جعلت ملف النفط ضمن أوراقها التفاوضية، وأنا أقول اذا اعطينا كردستان حق استثمار النفط بمعزل عن بغداد، فمن سيمنع البصرة غدا اذا طالبت بنفس الحق؟".
ويذكر ان "سر" تقدم الاكراد في الملف الاقتصادي يعود لسببين، الاول هو وحدة مركز القرار، والثاني الاستقرار الامني، ويضاف اليهما الانفتاح على الاستثمار الاجنبي (القطاع الخاص).
اما السيستم الحكومي خارج كردستان "فبطيء، ويعاني من بيروقراطية قاتلة".
وهو يعترف ان الوزارات والمحافظات "اصبحت اقطاعيات للاحزاب والميليشيات وغير ذلك". ويوضح ان البصرة مثلا "مؤهلة لان تكون أغنى مدينة في العالم، لكننا نرى ان اهل البصرة يهجرون مدنهم بسبب ملوحة ماء الشرب، وهذا عجز اداري".
ومع ذلك يعتقد الوزير ان امام الاستثمار "فرصة عظيمة"، لان العراق بلد غني، فهو يمتلك ثالث احتياطي للنفط في العالم. وينقل عن خبير طاقة في صندوق النقد الدولي القول "اذا كانت السعودية تطفو على بحر من نفط فالعراق يطفو على محيط". كما ان البلاد تعتبر سوقا واعدة بنحو 30 مليون مستهلك، وتاريخ ثقافي وحضاري عريق، يفترض ان يشجع الاستثمار، على حد تعبيره.
ويختم الوزير بكلمة عن التعداد العام للسكان والذي تأجل بسبب خلاف عربي كردي حول تفاصيله. ويقول ان هناك لجنة ستدرس كيفية معالجة الخلافات "للتوصل الى صيغة صحيحة". ويخلص الى القول بأنه "مستعد لتأجيل التعداد 100 مرة، لأنه افضل من ان يجري مجزءا او مشوها".
https://telegram.me/buratha