د. حسين القاصد ||
لقد سبق الجواهري الخالد، عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته العينيةت ( آمنت بالحسن) وأحسب أن عبد الرزاق حاول أن يجاري الجواهري فركب البحر نفسه ( المتقارب) لكنه اختار الميم بدلا من العين كي يفلت من شباك الجواهري ويفلت من معيار علي بن أبي طالب النقدي حيث اشترط أن يجمع الشعراء زمان واحد وغرض واحد ثم مال إلى ( أحسنهم نادرة وأسبقهم بادرة) والجواهري أسبق من عبد الرزاق لكن عبد الرزاق وإن سار على خارطة طريق الجواهري الا انه استطاع أن يكتب بوجدانه لا بوجدان الجواهري فإذا كانت عينية الجواهري تكاد تسمع منها طبول الحرب وهي قصيدة ثورية لم تخلُ من الخطاب اليساري الثوري.. فإن عبد الرزاق دخل إلى الحسين من طقوس الجنوب المشحونة بالعاطفة ؛ فهو مازال يمارس طقوس الزيارة مع آل الحسين.. فبينما يقول الجواهري :
وأن تطعم الموت خير البنين
من الأكهلين إلى الرضع
نجد عبد الرزاق عبد الواحد مازال في طقس الزيارة :
سلامٌ على آلِكَ الحوَّمِ
حَوالَْيكَ في ذلك المَضرَمِ
وَهُم يَدفعونَ بِعُري الصدور
عن صدرِكَ الطاهرِ الأرحَمِ
ويَحتضنونَ بكِبْرِ النَّبِّيين
ما غاصَ فيهم من الأسهُمِ
سلامٌ عليهم..على راحَتَين
كَشَمسَين في فَلَكٍ أقْتَمِ
تَشعُّ بطونُهُما بالضياء
وتَجري الدِّماءُ من المِعصَمِ !
نعم، قد نرى الشاعرين في منطقة واحدة ولا غرابة في ذلك؛ لأن الحادثة واحدة، لكن عاطفة عبد الرزاق وحاجته للتعويض جعلته يتفوق على الجواهري لأن الجواهري حمل الحسين نشيدا بينما جاء عبد الرزاق محتاجا منكسرا لائذا ليجد في الشعر تعويضا.. ألم يكن الشعر تعويضا للمتنبي عن كل خيباته؟
انظر هذه الالتفاتة الذكية حيث يحتاج الشاعر شجاعة السيدة زينب:
سلامٌ على هالَةٍ تَرتَقي
بلألائِها مُرتَقى مريَمِ
طَهورٍ مُتَوَّجةٍ بالجلال
مُخَضَّبَةٍ بالدَّمِ العَندَمِ
تَهاوَت فَصاحةُ كلِّ الرجال
أمامَ تَفَجُّعِها المُلهَمِ
فَراحَت تُزَعزِعُ عَرشَ الضَّلال
بصوتٍ بأوجاعِهِ مُفعَمِ
لا أظن شاعرا وقف عند السيدة زينب مثلما فعل عبد الرزاق؛ واقول :لا أظن لأن الأرض ولود وقد يكون قد فاتني خطاب فاق خطاب عبد الرزاق عبد الواحد في السيدة زينب.. فالسبية التي استشهد أخواها وحملت أطفال الحسين مضرجين بدمائهم.. كانت هي الملكة لكن بماذا متوجة؟ بالجلال الذي ألجم يزيد وتهاوت فصاحة جميع من في قصره أمام فجيعتها لتزعزع عرشه بصوتها المزلزل وهي ترتقي بلألائها مرتقى مريم.
لكن الأرض لا تستحيي :
ولو كان للأرضِ بعضُ الحياء
لَمادَت بأحرُفِها اليُتَّمِ !
ثم تحدث انعطافة غريبة حين يخاطب الشاعر الإمام العباس
ويا سيّدي يا أعَزَّ الرجال
يا مُشرَعاً قَطُّ لم يُعجَمِ
ويا بنَ الذي سيفُهُ ما يَزال
إذا قيلَ يا ذا الفَقارِ احسِمِ
تُحِسُّ مروءَ ةَ مليونِ سيفٍٍ
سَرَتْ بين كَفِّكَ والمَحْزَمِ !
هناك روايتان، إحداهما تقول إن أعز الرجال ( العباس) لم يسبق له أن يشترك في معركة قبل الطف، والثانية تؤكد اشتراكه في صفين، والشاعر اختار الأولى بدليل قوله ( يا مشرعا قط لم يعجم) يا سيفا لم يجرب في معركة سابقة.. لكنك ابن علي صاحب ذي الفقار لذلك تذكر علياً لتحس مروءة مليون سيف تسري بين كفك ومحزمك.. ولعل منح السيف صفة المروءة هي من الوصف الرائع المذهل وأحسب أن الشاعر أراد بها مروءة ذي الفقار والا من أين للسيوف مروءة وهي أدوات قتل وذبح؟
لكن كسر أفق التوقع مع المقدس يتجلى بوضوح لا يخلو من بعض الإساءة فمن الصعب أن تعيّر العباس بأبيه وسيفه بذي الفقار.. أقول : من الصعب الجرأة على المقدس لكن لدى الشاعر يختلف الأمر ومع مافيه مما يخدش المشاعر الا انها جرأة شعرية يريد بها الشاعر النموذج الأعظم كي يعوضه عن نقصه ويطفيء خوفه؛ انظر ماذا يقول للعباس:
وتُوشِكُ أن..ثمَّ تُرخي يَدَيك
وتُنكرُ زَعمَكَ من مَزْعَمِ
فأينَ سيوفُكَ من ذي الفَقار
وأينَكَ من ذلكَ الضَّيغَمِ ؟ !
حوار غريب وكأن الشاعر يخاطب نفسه لا العباس لكي يحصل على الاطمئنان فالعباس استشهد والشاعر مازال خائفا وسيلوذ بأعظم من يلوذ به الخائفون :
عليُّ..عليَّ الهُُدى والجهاد
عَظُمتَ لدى اللهِ من مُسلمِ
وَيا أكرَمَ الناسِ بَعدَ النَّبيّ
وَجهاً..وأغنى امريءٍٍ ٍمُعدَمِ !
مَلَكتَ الحياتَين دُنيا وأ ُخرى
وليسَ بِبَيتِكَ من درهمِ !
فِدىً لِخشوعِكَ من ناطقٍ
فِداءٌ لِجوعِكَ من أبْكَمِ !
لقد وصل الشاعر إلى علي واطمأن وسيعود للحسين ليكلمه ويشكو إليه حاله ويفصح :
قَدِمتُ ، وعفوَكَ عن مَقدَمي
مَزيجاً من الدّمِ والعَلقَمِ
وَبي غَضَبٌ جَلَّ أن أدَّ ريه
ونَفسٌ أبَتْ أن أقولَ اكظِمي
إلى أن يصل لذروة الشكوى فيقول :
لَئِن ضَجَّ من حولكَ الظالمون
فإنّا وُكِلنا إلى الأظلَمِ
وإن خانَكَ الصَّحبُ والأصفياء
فقد خانَنا مَن لهُ نَنتَمي!
بَنو عَمِّنا..أهلُنا الأقرَبون
واحِدُهُم صارَ كالأرْقَمِ !
تَدورُ علينا عيونُ الذِّئاب
فَنَحتارُ من أيِّها نَحتَمي!
لهذا وَقفنا عُراةَ الجراح
كباراً على لؤمِها الألأمِ
فَيا سيّدي يا سَنا كربلاء
يُلأليءُ في الحَلَكِ الأقتَمِ
تَشعُّ مَنائرُهُ بالضّياء
وتَزفُرُ بالوَجَعِ المُلهَمِ
ويا عَطَشاً كلُّ جَدْبِ العصور
سَيَشربُ من وِرْدِهِ الزَّمزَمِ
سأطبَعُ ثَغري على مَوطِئَيك
سلامٌ لأرضِكَ من مَلْثَمِ !
الشكوى وإن كانت موجهة من السلطة ويشرح فيها خذلان العرب للعراق لاسيما أن القصيدة ألقيت ١٩٩٥ في ذروة الحصار؛ لكني أجد أن هذه الشكوى تصدق الآن أكثر لأن البيتين :
وإن خانك الصحب والأصفياء
فقد خاننا من له ننتمي
بنو عمنا.. أهلنا الأقربون
واحدهم صار كالأرقم
نعم يا عبد الرزاق. نعم يا أبا خالد ونحن في أيام الحسين..
تدور علينا عيون الذئاب
فنحتار من أيها نحتمي
بل من أيّنا نحتمي؟ !!
ملاحظة : لم أتناول مقطع الحر الرياحي لأني تناولته في مناسبات كثيرة
٢٨ / ٨ / ٢٠٢٠
https://telegram.me/buratha