حسن الهاشمي
رضا الأمة في الحاكم الذي يحكمها عن طريق الانتخاب هو الحاكي عن شرعيته وعمله ضمن نطاق القانون الذي يوفر له المساحة في توفير الأمن والخدمات والرفاه للمجتمع، بداهة ملازمة السلطة للتصرف في شؤون الناس المالية والنفسية ونحوها، والأصل فيه هو عدم جواز التصرف في شؤون الغير إلا بطيب أنفسهم، وهو ما قامت عليه سيرة العقلاء وهذا مما لا كلام فيه، وإنما الكلام في طرق إحراز رضا الأمة في التفويض، والمعروف المشهور في ذلك طريقان:الأول: الانتخاب، وهو الأقرب إلى الواقع الديمقراطي.الثاني: التوريث والبيعة في غير موقع النص، وهو أقرب إلى الواقع الديكتاتوري.ولعل الانتخاب هو أقرب إلى حالنا لما يتمخض عنه التصرف برضى الأمة وإذا ما حادت السلطة عن ذلك يمكن عزلها ومحاسبتها وحجب الثقة عنها بانتخاب البديل الأفضل، وهو ما لا يتوفر عادة في الواقع الديكتاتوري الذي ربما يفضي في بعض أشكاله إلى شيوع الظلم والمنكر والعدوان ولكن بدون جدوى التغيير!! ويمكن الاستدلال على شرعية انتخاب الحاكم ونظام الحكم بأدلة أهمها:الدليل الأول: الضرورة العقلية، لاستقلال العقل بقبح الفوضى والهرج والفتنة ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة وبسط المعروف ورفع الظلم والفساد والدفاع عن نواميس المجتمع وحقوقه، ولا يحصل ذلك كله إلا في ظل دولة صالحة عادلة نافذة ذات شوكة وقدرة قائمة، وتمتلك سيادتها وسلطتها، إذ لا يمكن لكل أحد أن يضمن ذلك أو يقوم بمهامه، كما لا يمكن أن يقوموا بها متفرقين أو حتى مجتمعين، لأنه مستلزم للفساد والهرج والمرج وتضارب الأفكار والتوجهات، فلابد وأن يقوموا به متحدين في هيئة أو جماعة ينتخبونها ويفوضون لها ذلك، وليس ذلك إلا الدولة، وأفضل سبيل إلى ذلك هو الانتخاب والاختيار، بداهة أن اتفاق الآراء طرا على رأي واحد مستحيل عادة، خصوصا مع اختلاف الأنظار وتعدد الأذواق والمشارب، كما أن ترجيح بعضهم على بعض من غير مرجح قبيح عقلا، فلم يبق إلا الانتخاب والترجيح بواسطة الأكثرية.الدليل الثاني: الضرورة الاجتماعية، من البديهي أنه لابد للناس من دولة وحكومة، والدولة لا تخلو من أن توجد بالنص من قبل الله تعالى أو من الرسول الأعظم (ص)، أو تكون بقهر قاهر على الأمة بالظلم والاستبداد، أو تكون بالانتخاب من قبل الأمة وبرضاها، فإن تحققت الدولة والحكومة بالنص الإلهي فلا كلام لتقدم النص على الانتخاب، حيث أن الله سبحانه ورسوله أعلم باحتياجات البشر ما يقوم سلوكهم من البشر بأنفسهم، ولكن المفروض في المقام عدمه لأننا في غير زمان النص، وعليه عندنا خياران: أحدهما أن نقول بقيام الدولة التي تستولي على الناس بالظلم والجور، وهذا يحكم العقل بقبحه ويتنزه عن تشريعه الحكيم، فيتعين الثالث وهو الانتخاب من قبل الأمة، وهو المطلوب. الدليل الثالث: الضرورة الشرعية، وهي مستفادة من فحوى قاعدة السلطنة بتقريب أن العقل والوجدان يشهدان على تسلط الناس على الأموال التي حازوها أو أنتجوها بنشاطاتهم وأعمالهم، واستمرت سيرة العقلاء على التزامهم بذلك في حياتهم ومعاملاتهم، إذ يحكمون بحرمة التعدي على مال الغير ويعدونه ظلما، وهو ما حكم به الشرع أيضا، حتى صار هذا من الضروريات ومسلمات فقه الفريقين أن يتمسكوا بها في الأبواب المختلفة، فعليه للأفراد أن ينتخبوا الفرد الأصلح ويولوه على أنفسهم، بل يجب ذلك بعدما حكم العقل بأن المجتمع لابد له من نظام وحكم وأنهما من ضروريات حياة البشر، ولا يخفى أن توافق أنظار المجتمع وتعاضدها في تشخيص لياقة الشخص وكفايته يوجب كون الشخص أقرب إلى الواقع والنفوس، وأشد بعثا على الإطاعة والخضوع وانتظام أمر الأمة، كما أن الشارع بعدما شرع للحاكم شروطا خاصة كالعلم والعدالة والإدارة وغيرها من الأمور الموجبة للانتخاب، إذ لا يصح انتخاب الفاقد للشروط والمؤهلات، حفظا للأمة من التشرذم والبلد من التمزق والعدالة من الخدش والعدالة من المروق.الدليل الرابع: سيرة العقلاء، فإنها مستمرة في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض الأعمال، ولأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء على الاهتمام بذلك، وتعيين الولاة والحكام بانتخاب من هو الأصلح والأليق بنظرهم، وإظهار التسليم والإطاعة له، ولن تخلو حياة البشر حتى في الغابات وفي العصور الحجرية أيضا من جماعة أو رئيس ما يحفظ كيانهم، ويدافع عن مصالحهم، فضلا عن الحياة العصرية التي نعيشها بما تحمل من تعقيدات وتطورات فإنها بحاجة إلى تأطير وتقنين لحفظ الحقوق من الاندثار والضياع، كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق ووسائل الارتباط، وكذا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحرية السياسية والأمن والنظام وإجراء العدالة وفصل الخصومات ونحوها مما لا يتيسر لكل فرد تحصيلها مباشرة، فينتخبون لذلك دولة حكيمة ويفوضون إليها ويساعدونها على تحصيل كل ما يصب في تحقيق العدالة وادحاض الباطل وأعوانه، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال انتخاب من يتصف بخبرة ودقة نظر وقرار صائب وحسن تدبير.والانتخاب هو الطريقة الفضلى في تأسيس وتطوير دولة قائمة على احترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والعقيدة وتفتق الكفاءات وبناء البلد على أساس المواطنة بعيدا عن كل ما يمس النسب والإثنية والمذهب والدين، فلكل أحد أن يعتنق ما يعتقد به ويذعن من دين أو نظرية أو مذهب، ولكن الجميع على اختلاف مشاربهم وأفكارهم متساوون أمام القانون ولهم من الحقوق مثماثلة مع الواجبات التي على عاتقهم إزاء الدولة التي تسهر على تقديم الخدمات والأمن والحياة الحرة الكريمة دون منة من أحد على أحد، إلا من خلال ما تقوم به من أمور توثق الصلة فيما بين الناخب والمنتخب، وإذا ما حاد الموكل عنها أو تلكأ فيها فإنه يحاسب ويعاقب إذا تطلب الأمر ذلك وصولا إلى الغاية المثلى في الحكم، وهذا ما يفرق الأنظمة الشعبية المتمخضة عن الانتخابات عن الأنظمة الشمولية التي تعمل بالعباد والبلاد ما تشاء دونما رقيب أو حسيب.
https://telegram.me/buratha