بقلم: علي الفحّام
عبثا حاولت الحكومات المتعاقبة أن تؤسس قواعد صحيحة، لبناء جيش احترافي يحمل عقيدة عسكرية متحضرة، ويحمي الشعب والدستور والمباديء الوطنية، أو بناء جهاز امني مستقل يعمل بمهنية وإخلاص وبلا فساد.. ليكونا حصنا رصينا للدولة العراقية الجديدة ومؤسساتها الأخرى، فكانت الآمال تنصب على النخبة الجديدة من أبناء الوطن ممن انضموا إلى الجيش والشرطة، بُعيد حل الجهازين بأمر الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، أملا في أن يمحو التشكيل الجديد الصورة السوداوية التي طبعتها الأجهزة الأمنية السابقة، في سجلات تاريخ العراق بأقلام تقطر حبرا ممتزجا بدماء أجساد ضحاياها، فقد كانت تلك المرحلة تمثل انقياد طواقم الجيش والأجهزة الأمنية التام، لأوامر السلطة البعثية في ممارسة القمع والعنف والاستبداد من جهة، والأهواء الشخصية والتمادي والتعالي المفرط لأفراد هذه الأجهزة ضباطا ومراتب على طبقات الشعب كافة من جهة أخرى، ومن الصعوبة محو هذه الانطباعات، ما لم يتم تفكيك البناء بأكمله وإعادة ترتيبه وفق مباديء ومفاهيم جديدة، وفعلا سعت الإدارة المدنية الأمريكية إلى تأسيس نواة جديدة في العراق للشرطة ثم الجيش، بقبولها المتطوعين الجدد وبشكل عشوائي نوعا ما، وفي هذا الاتجاه دربت القوات الأمريكية بضعة آلاف من العراقيين في معسكراتها ومنحت قلة منهم رتبا عسكرية غير مستحقة، والاهم أنها حاولت تكريس الثقافة الإنسانية والقانونية بديلا للقسوة والعنف.. وعندما بدأت الأوضاع الأمنية والسياسية تسير شيئا فشيئا نحو الاستقرار، عاد مئات الآلاف من منتسبي الجيش والشرطة ممن فروا جميعا من الخدمة أبان حرب إسقاط النظام البعثي عام 2003 اصطفت القوات الأمريكية لنفسها فرقا قذرة من أسوء الشخصيات منهم، وعاد البعض الآخر إلى صنوف أخرى مغايرة لصنوفهم السابقة، فمثلا ضباط الجيش انخرط البعض منهم بصنوف الشرطة، شرطة المرور، المخابرات، شرطة حماية المنشآت، وبالتأكيد تم ذلك بغفلة السلطات وكان بدوافع الهرب من الخدمة في الأماكن الحدودية والبعيدة عن أماكن سكناهم، أو لأسباب أخرى قد تتعلق بمشاركتهم وحداتهم العسكرية السابقة بجرائم الإبادة في مدن الوسط والجنوب عام 1991 أو في محافظات الشمال العراقي. والأحزاب السياسية هي الأخرى شاءت أن تكون لها حصة في تشكيلات الجيش والشرطة، بزج زمر ميليشياتها في هاتين المؤسستين وبرتب كبيرة، وإضافة سنوات خدمة لهم منذ انضمامهم إلى أحزابهم.. بهذا البناء التراكمي العشوائي المشترك على أيدي القوات الأمريكية وميليشيا الأحزاب وبقايا الجيش السابق، تشكلت أجهزتنا الأمنية ذات التسليح الهزيل، والمتخمة برتب عسكرية متنوعة وبإعداد خيالية، وبقيادات عليا جاءت بها المحاصصة الحزبية، مع معرفة الجميع بعظم المسؤوليات الملقاة على عاتق هذه الأجهزة في صد الإرهاب ودحر العصابات البعثية المجرمة وخلايا تنظيم القاعدة الإرهابي. فالمفترض أن تكون عناصر هذه الأجهزة جميعا على أهبة الاستعداد وملأى باليقظة والحذر ومستعدة ومتحسبة للبقاء في الثكنات والمراكز العسكرية الأساسية أو البديلة في حال اقتضاء الأمر ذلك، خصوصا في أوقات تصاعد التهديد الإرهابي قبيل أداء طقوس الزيارة في المناسبات الدينية أو ممارسات الاستحقاقات الانتخابية أو ربما الأيام الاعتيادية التي أضحت أيضا مواعيد مثالية، يقتنص فيها مجرمو البعث والقاعدة أرواح الأبرياء أينما تجمعوا.. ومن الواجب أيضا أن ينتشر الجيش على حدود المحافظات وحدود البلد مع دول الجوار، ويترك مسؤولية امن المحافظات إلى أجهزة الأمن الداخلي، لأنها أدرى بمداخل ومكامن ومخارج المدن، ولديها أوليات وارتباطات مع اختيارية أحيائها ومقاطعاتها، ودورياتها تجول يوميا جميع شوارعها وبلا استثناء. إذن ما الذي يحصل حاليا في خضم هذا الارتباك وتضارب الصلاحيات والجهل التام بالواجب والمسؤولية على حد سواء، والتكاسل المفرط ولهاث البعض من قادة الجيش والشرطة وراء الانتفاع الأناني بامتيازات المنصب، كالقروض المالية الطائلة، وشغل دور الدولة، واستغلال السيارات الفارهة، وتكثيف الحمايات الشخصية المبالغ بها!! فمن يزور مدينتي كربلاء والنجف يجدهما معبئتين بجميع الصنوف العسكرية والأمنية، وبأعداد مهولة تكاد توازي أعداد الزائرين، وعجلات مصفحة وناقلات أفراد تأتي وتروح في الشوارع الضيقة للمدينة القديمة، مسببة مضايقات حقيقية لحركة السير والمرور، وعلى سبيل المثال في الزيارة الأربعينية الأخيرة التي شهدتها كربلاء، غصت شوارع المحافظة باليات وعجلات الجيش، خصوصا مركز المدينة وكانت هذه الآليات الكبيرة تزاحم الزوار التي ملأت الشوارع، واحتاج الفرد الزائر منهم في تلك الليالي بضع سنتيمترات لافتراش الأرض والنوم بعد رحلة ماراثونية طويلة، ولم يكن الزوار بحاجة لهذا العدد الهائل من أفراد الجيش والياته، طالما قد خضعوا للتفتيش الدوري عبر ست إلى ثماني سيطرات امتدت من مداخل المحافظة وصولا إلى أعتاب الأضرحة المقدسة، هذه القطعات العسكرية الآلية انتشرت بعدما تصارعت ألويتها فيما بينها للوصول إلى مركز المدينة واغتنام فرصة التمترس في الشوارع، بدلا من الانفتاح في العراء أو وسط البساتين، لأنها كانت تريد أن تهنأ بفرصة الحصول على خدمات المواكب الحسينية التطوعية، مع العلم أن الوحدات العسكرية تنعم بمخصصات الطعام وحوافز الإنذار المالية والمعنوية أسوة بالأجهزة الأمنية.. وكمحصلة لحديثي أن قطعات الجيش زجت نفسها بالمركز ولم تزاحم الزوار على المكان فحسب وإنما زاحمتهم على لقمة الغذاء أيضا.. والمضحك المبكي هو كلما يحدث خرق امني في المدينة، يتعذر القادة الامنيون موهمين أنفسهم ووسائل الإعلام بعذر "ان الجناة لم يستطيعوا ارتكاب جريمتهم داخل مركز المدينة الملأى بالقطوعات الأمنية، ونفذوا جريمتهم خارج هذه القطوعات" على حد تعبيرهم .. وكأن الضحايا الذين يسقطون في كل مرة خارج القطوعات الأمنية ليسوا من أبناء كربلاء أو لا ينتمون لصنف البشر ولا يستحقون الحماية!..الجميع ينتظر من البرلمان القادم والحكومة الجديدة استحقاقات كثيرة، ولكن أجد أن استحقاق إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية في مقدمة الاستحقاقات، وهي أولى من توفير الخدمات أو التعيينات أو الايفادات والمنح الدراسية خارج العراق.. لان الدم العراقي مازال يراق من دون اهتمام من قيادات الجيش والأجهزة الأمنية، مع كل الاحترام لتضحيات عناصر التشكيلين من الرتب البسيطة التي امتزجت دماؤهم الزكية بدماء أبناء شعبهم المضمخ بالجراح، وعلى الوزارة القادمة إذا ما أرادت التخلص من عبثية المراحل السابقة، ينبغي عليها تفكيك مسؤوليات كبار ضباط الأجهزة الأمنية من غير رجال الشرطة وإعادتهم إلى وحداتهم وصنوفهم الحقيقية، وإعادة خطط انتشار وحدات الجيش خارج المدن، وتوسيع النطاقات الأمنية، مع تخفيض رواتب ضباط الجيش والشرطة، وبما ينسجم مع ما يؤدونه من واجبات، ومعاقبة من يستغل منهم موارد وإمكانيات الدولة لمصلحته الشخصية، وأخيرا لا ننسى إخراج أفراد الميليشيات والصحوات خارج منظومة الجيش والشرطة..
https://telegram.me/buratha