قاسم العجرش
في الأصل تشتمل منظومة العمل السياسي على مقومات ثلاثة يجدر أن تكون متلازمة ومتوازنة، الفكرة، نقد الفكرة، والحوار مع الفكرة، هذه هي المقومات وقد تجاوزنا مباشرة موضوع الفكر السياسي باعتباره في الحالة العراقية غائباً أو مغيباً، ولم يفرض حضوره بغد حتى هذه اللحظة على مجمل أنماط الرؤية للوقائع والأحداث. وعند حدود الفكر نستذكر أن هناك مفاصل ومستويات تحكم القرار السياسي والخيار السياسي، وأول هذه المفاصل هو الفكر الفلسفي وفي أحضانه الأيديولوجيا، ثم يفرض الفكر السياسي نفسه كمنهج استيعاب للأيديولوجيا، وفيما بعد وعلى قاعدة الفلسفة والفكر السياسي، يتشكل الموقف السياسي، ومنه يستمد القرار السياسي والسلوك السياسي المباشر، وهذا يعطي للمواقف السياسية مادتين مهمتين أولاهما مادة العمق والثبات، وهي التي تشكل الأفق الاستراتيجي لمجمل المشروعات على تنوعها وعلى تناقضاتها أحياناً ، وثانيهما مادة التضامن الوطني حتى ليكاد المتابع أن يرى الصورة والمضمون موحدين، وبالتالي تنتفي حالة التصادم والافتراقات البينية العميقة .. نقطة البدء عندنا تقع غالباً عند مفصل الفكرة السياسية، والفكرة جزء من الفكر، قد تؤشر إليه، ولكنها تبقى محدودة التأشير والتأثير، ومع ذلك دعونا نبدأ من لحظة الفكرة السياسية، وحتى الآن هذا واقعنا وهذه خبرتنا وما نحتاجه الفكرة السياسية و الحوار معها أولاً، حتى لا تبقى مجرد ومضة أو استحلام يحضر ويغيب لماماً، الفكرة السياسية أيضاً تحتاج إلى نقدها، بحيث يكون حضورها قابلاً للاختبار والتعديل، فهناك ظرف متحرك وتحديات متواترة لا تنقطع، وهناك استجابات متفاوتة إلى درجة التناقض على الفكرة السياسية نفسها، ونقض الفكرة هو الذي يؤمن لها منهجية الاستقرار والاستمرار، وبالمحصلة هناك ما يجب حذفه من الفكرة وقد استنفد أغراضه، وهناك ما يجب إضافته عضوياً بدافع الواقعية والحاجة إليه وهناك ما يلزم تجديده، بمعنى إعادة استيعابه وإعادة إنتاجه مع ضرورات الصيانة الفكرية والموقفية اللازمة له..ومن الواضح أننا بمنطق التفاؤل، قد أشرنا هنا إلى حالة منهجية، ومن المفترض أن نتجه إليها ونلتقي عند مصادرها على الأقل، فنتحاور ونتفاعل وكل منا يكتشف حدود الآخر، إن الحوار هو الذي يؤمن مادة الوصول إلى المشترك وهو الذي يؤسس لضرورة الالتزام الأخلاقي والعملي بالموقف المشترك أو القرار الموحد
إننا نعرف بكثير من المرارة أن الواقع السياسي العراقي لم يتمرن على منهجية الحوار بهذا المعنى، وهذا ما يؤدي إلى انتشار ظواهر ثلاث في المشهد السياسي ، ظاهرة اللامسؤولية وانخفاض درجة الالتزام بالقضايا المشتركة، وظاهرة التصادم المجاني بحيث يحتسب كل موقف نقيض الموقف الموقع السياسي الآخر، وهذه الظاهرة شكلت مع الزمن.. ومع تواتر الترهل والاهتراء تأصلت حالة من الادمان السياسي على التصادم المجاني. وأما الظاهرة الثالثة فربما تتمثل في هذه النزعة نحو المجزوء والتابع والثانوي، حتى لكأن السياسة قد بدأت تتخلص من فكرة المشترك والعام و الأساسي، وبدأت تتقلص إلى حدود الإجرائي والشكلاني واللاحق، هذا هو الواقع أمامنا وهذا الواقع صعب وضاغط.. وتداخلت في سلوكنا السياسي محاور سالت على بعضها، فلم يعد هناك تمييز بين المشترك والطارئ، ولا بين المصيري والعابر، كل ذلك أدى إلى أن يحدث الاستهلاك السياسي من جهة، وأن تنمو استطالات بقصد تغيير قواعد الصراع ومعدلات الواقع من جهة أخرى.
وحينما نتابع الواقع السياسي العراقي على هذا النحو فلأننا نريد أن نرسي قاعدتي الواقع الحقيقي والحوار عليه معاً وهذا لا يعني أن الصورة مشؤومة وسلبية إلى هذه الدرجة، لقد تغيرت معالم كثيرة في قواعد الصراع وظهرت واحات أصيلة في المقاومة العربية، والأزمة الآن علينا وعلى الآخرين ولأن الأمر على هذا المستوى فإن الحوار المحكوم بأصول والمنطلق من ثوابت والمفتوح على التقويم والتحديد والتحليل هو الذي يساعد بدرجة قصوى على أن تبقى المراصد الأساسية في كل الأحوال القائمة بيد العرب، وبالتأكيد فإن الحوار وسيلة لمن امتلك صحة الانتماء العربي العربي وقوة الالتزام بالقضايا العربية المشتركة ولمن لديه الاستعداد الكافي لكي يعترف بالحقيقة ويعتنق بعد ذلك ما بقي منها مشتركاً وضرورياً وصافياً.ـ
https://telegram.me/buratha