الدكتور منذر الفضل
أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نتائج الانتخابات لمجلس النواب العراقي مساء يوم 26 من مارس (آذار) 2010 في ظل أجواء مشحونة بالتوتر السياسي والطعن في نزاهة وشفافية الانتخابات في داخل العراق وخارجه، وقد فازت كتلة قائمة العراقية بالمرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد، وحصلت على 91 مقعدا، ثم قائمة «دولة القانون» وبلغ عدد مقاعدها 89، وجاءت قائمة الائتلاف الوطني في المرتبة الثالثة حيث بلغت مقاعدها 71 مقعدا، ثم قائمة التحالف الكردستاني التي فازت بـ43 مقعدا.
وقد أثارت بعض التصريحات حول تفسير بعض بنود الدستور جدلا بين الأطراف السياسية، وفي الشارع العراقي. وذلك بسبب اختلاف في تفسير بعض نصوص الدستور التي تتعلق بـ«الكتلة النيابية الأكثر عددا» التي يكلفها رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة، وكذلك إمكانية ترشيح جلال طالباني لولاية رئاسية ثانية.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى فقد نشأ اختلاف في تفسير نص المادة 76 من الدستور العراقي بين القائمة الأولى والثانية في موضوع تولي منصب رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة، حيث تباينت الآراء وتعددت بسبب كثرة التفسيرات وتباين مصادرها في تحديد مفهوم «الكتلة النيابية الأكثر عددا». فبينما تذهب القائمة العراقية إلى القول بأنها الفائزة بعدد أكثر للأصوات في الانتخابات، وبالتالي فمن حقها أن يكون ترشيح رئيس الوزراء من بين صفوفها الذي سيتولى تشكيل الحكومة المقبلة، يرى آخرون بأن من سيتولى تشكيل الحكومة هي الكتلة النيابية التي تضم الأكثر عددا بعد الانتخابات وتشكيل التحالفات بين القوائم داخل مجلس النواب.
وهذا التعدد في التفسيرات والتباين في تحديد المقصود بالعبارة سالفة الذكر سببه التنافس بين القوائم والأحزاب الذي تجاوز قواعد العمل السياسي، وحتى أخلاقيات المنافسة، في ظل أجواء ديمقراطية لا تحكمها أي ضوابط. وصار كل طرف أو كل شخص سياسي أو غير سياسي يفسر النصوص حسب هواه، أو وفقا لمصالحه من دون مراعاة لقواعد ومرجعية التفسير للنصوص الدستورية والقانونية. والحال يقتضي في هكذا حالات الرجوع إلى مرجعية قضائية، وهي السلطة القضائية العليا لتفسر أي نص، ووضع الحد لأي اختلاف بين الأطراف. وفعلا فقد أرسل مكتب رئيس الوزراء إلى المحكمة الاتحادية كتابا يطلب منها تفسير عبارة «الكتلة النيابية الأكثر عددا» الواردة في المادة المذكورة.
وطبقا لنص المادة 92 من الدستور العراقي لعام 2005، فإن المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة ماليا وإداريا، ويعود تشكيل هذه المحكمة إلى ما بعد سقوط النظام، أي عقب صدور قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (المادة 44). وقد نص الدستور العراقي لعام 2005 على اختصاصات المحكمة الاتحادية في المادة 93 منه ومن ضمنها اختصاص تفسير النصوص الدستورية، حيث جاء ما يلي: «تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي:... ثانيا: تفسير نصوص الدستور».
وفي ضوء ما تقدم جاء رأي المحكمة الاتحادية العليا من تفسير عبارة «الكتلة النيابية الأكثر عددا» صائبا ودستوريا وملزما، لأنه صدر مطابقا للدستور العراقي المادة 94 التي تنص على أن «قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتت ملزمة للسلطات كافة»، كما أنه جاء موافقا لقانون المحكمة أيضا.
أصدرت كتلة القائمة العراقية بيانا تحت عنوان غريب جاء فيه: «رأي المحكمة الاتحادية لا قيمة قانونية له» ذكرت فيه عدة محاور جوهرية يجب مناقشتها بحيادية وموضوعية بعيدا عن الصراع السياسي وهي:
1- اعترفت القائمة العراقية بوجود المحكمة الاتحادية العليا طبقا للقانون رقم 30 لسنة 2005، ولكنها أنكرت عليها صلاحية تفسير نصوص الدستور! في حين أن الدستور جاء صريحا وواضحا في هذه المسألة حين نص في المادة 93 أن من بين اختصاصات المحكمة الاتحادية هو تفسير النصوص الدستورية (الفقرة ثانيا) كما أسلفنا.
2- ثم عادت كتلة القائمة العراقية وأنكرت في بيانها وجود المحكمة الاتحادية حينما قالت: «المحكمة الاتحادية المعنية بالدستور غير قائمة»، وبالتالي فإن «رأي المحكمة الاتحادية لا قيمة قانونية له». وهذا تناقض صريح وقعت فيه كتلة القائمة العراقية.
فضلا عن هذا التناقض، فإن هذا الرأي الوارد في هذا البيان غير صحيح، إذ سبق أن بينا شرعية وجود المحكمة الاتحادية دستوريا وقانونيا، فهناك عشرات القرارات والاستيضاحات والآراء القانونية التي صدرت عنها بناء على طلب من أطراف متعددة من مجلس رئاسة الجمهورية، ومن مجلس النواب، ومن السيد طارق الهاشمي أيضا، وغيرها. فلو كانت هذه المحكمة غير قائمة كيف تمارس مهامها ويتم الالتزام حرفيا بقراراتها وآرائها وتفسيراتها للدستور والقوانين منذ عام 2005 حتى هذه اللحظة؟ ثم لماذا يحصل الانتقائية في المواقف حين يتم الالتزام بآرائها وبقراراتها السابقة ولا يتم الالتزام بهذا الرأي؟ مع العلم أن المحكمة نشأت بقانون رقم 30 لسنة 2005 وطبقا لنص المادة 130 من الدستور العراقي النافذ فإن جميع التشريعات تبقى نافذة المفعول ما لم تلغ أو تعدل طبقا لأحكام هذا الدستور.
ترى الكتلة العراقية أنها هي الكتلة الفائزة في الانتخابات، ومن حقها تشكيل الحكومة، والصحيح أن هناك فرقا بين الكتلة الفائزة والكتلة النيابية الأكثر عددا التي تتولى دستوريا ترشيح رئيس الوزراء من بينها ليتولى تشكيل الحكومة وفقا لتكليف رئيس الجمهورية، وحسب السياقات الدستورية سالفة الذكر.
كما أنه ليس بالضرورة أن تكون الكتلة الفائزة هي الأكثر عددا في المجلس النيابي، إذ أن الصحيح دستوريا هو ما ذهبت إليه المحكمة الاتحادية العليا في رؤيتها السليمة لتفسير الدستور أعلاه. يضاف إلى ما تقدم أن الدستور العراقي ذكر عبارة «الكتلة النيابية» ولم يذكر عبارة «الكتلة الانتخابية»، والفرق بينهما كبير. لأن الكتلة النيابية الأكثر عددا هي التي سيكلف رئيس الجمهورية مرشحها لرئاسة الوزراء لتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية وفقا لنص المادة 76 الفقرة أولا، والتي عادة ما تتشكل عقب اجتماع مجلس النواب، وهذه الكتلة يجب أن يبلغ عدد أعضائها 163 من مجموع 325 عضوا لتكون الكتلة النيابية الأكثر عددا، بينما لم تحصل القائمة العراقية إلا على 91 مقعدا.
وترى الكتلة العراقية في بيانها أن «المحكمة الاتحادية العليا جهة ليست ذات اختصاص»، وفي ضوء رؤيتنا الدستورية والقانونية فإن هذا الكلام غير صحيح من الناحية القانونية أيضا، فإذا كانت المحكمة الاتحادية العليا ليست ذات اختصاص! فمن هي يا ترى الجهة صاحبة الاختصاص في تفسير الدستور؟
أما في ما يتعلق بإمكانية ترشيح جلال طالباني لولاية رئاسية ثانية، فإن منصب رئاسة الجمهورية في العراق يعد من المناصب المهمة باعتباره وظيفة سيادية عليا في الدولة. ولهذا اشترط القانون الأعلى في البلاد الصادر عام 2004 (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) وكذلك الدستور العراقي لعام 2005 وجوب حصول المرشح لمثل هذا المنصب على أغلبية ثلثي أصوات أعضاء السلطة التشريعية (مجلس النواب).
حدد الدستور العراقي لعام 2005 فترة ولاية رئاسة الجمهورية بمدة 4 سنوات قابلة للتجديد لولاية ثانية فقط، وبذلك يكون مجموع ولاية الرئاسة بفترة محددة قصوى لا تتجاوز 8 سنوات، لكي يتجنب العراق الحكم الديكتاتوري، ويتجاوز حكم الفرد واحتكار السلطة. ومن المعلوم أن السيد جلال طالباني تولى رئاسة الجمهورية قبل صدور الدستور عام 2005.
وبعد صدور الدستور العراقي ونفاذه، تولى السيد جلال طالباني، منذ عام 2005 وحتى الآن، فترة رئاسية واحدة لمنصب رئاسة الجمهورية وفقا لما جاء في الدستور: الفقرة أولا من المادة 72. وقد تباينت الآراء والاجتهادات من السياسيين من تفسير الدستور العراقي حول فترة ولاية رئاسة الجمهورية في العراق، وما إذا كان يحق للسيد جلال طالباني أن يرشح لهذا المنصب مرة أخرى بعد انتهاء ولايته الحالية، إذ جاءت هذه الآراء منطلقة من أن السيد جلال طالباني قد تولى المنصب مرتين. والصحيح أن الولاية الأولى للسيد طالباني لا يمكن أن تحسب دستوريا، لأنها حصلت قبل سريان الدستور العراقي لعام 2005، وأن ما شغله دستوريا من فترة رئاسية كانت واحدة فقط وفق أحكام الدستور العراقي النافذ.
ومن المعلوم أن ما يراد بالتفسير للنص الدستوري أو القانوني هو بيان ما هو غامض وإيضاح أو كشف المراد بالنص. والأصل هنا أن تتولى المحكمة الاتحادية في العراق تفسير النصوص الدستورية حسب نص الفقرة ثانيا من المادة 93 من الدستور. ولا يمنع من أن تعتمد المحكمة الموقرة آراء الفقه القانوني والمراجع المختصة في هذا الميدان أو تستأنس بها.
فالتفسير للنص هو عملية ذهنية يقوم بها المختص لكشف نية المشرع وتحديد مقصوده من خلال شكل الألفاظ، ومضمون أو فحوى النص بعد الرجوع إلى العوامل الداخلية للنص والعوامل الخارجية (الأعراف الدستورية).
ومن الجدير بالذكر أن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، الذي صدر في 8 آذار 2004، اعتبر بمثابة القانون الأعلى في العراق لحين صدور الدستور الدائم وتشكيل الحكومة المنتخبة بموجبه (المادة 62 من القانون المذكور). كما ورد في الباب الخامس منه أن السلطة التنفيذية تتشكل من مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء ورئيسه (المادة 35). وقد حددت المادة 36 منه قيام الجمعية الوطنية بانتخاب رئيس للدولة ونائبين له يشكلون مجلس الرئاسة الذي تكون وظيفته تمثيل سيادة العراق والإشراف على شؤون البلاد العليا على أن يتم انتخاب مجلس الرئاسة بقائمة واحدة وبأغلبية ثلثي أصوات الأعضاء.
وفي ضوء ذلك، وفي الجلسة الأولى من اجتماع الجمعية الوطنية العراقية المنعقد بتاريخ 17 من مارس 2005، انتُخب السيد جلال طالباني رئيسا لجمهورية العراق مع نائبين له هما السيد غازي الياور والسيد عادل عبد المهدي. وتشكل مجلس الرئاسة منهم طبقا للمادة 36 من القانون سالف الذكر بسبب أن الدستور لم يكن قد صدر بعد من الجمعية الوطنية العراقية المنتخبة.
وبعد شهرين تقريبا من انعقاد الجمعية الوطنية تشكلت لجنة خاصة لكتابة الدستور (اللجنة رقم 27) من 55 عضوا منتخبا، وانضم إليها في ما بعد عدد من العرب السنة الذين كانوا من المقاطعين للعملية السياسية. وقد تم إنجاز كتابة الدستور وصياغته في ديسمبر (كانون الأول) 2005، وأصبح نافذ المفعول يوم 20 مايو (أيار) 2006، وهو تاريخ تشكيل الحكومة حسب الدستور طبقا لأحكام المادة 144 منه، وبقيت ولاية الرئيس جلال طالباني سارية طبقا لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
يتضح من ذلك ما يلي:
1- إن المادة 72 من الدستور العراقي هي الفيصل في هذا الموضوع، ووفقا لذلك فإن من حق السيد جلال طالباني الترشح لولاية ثانية وأخيرة، وإن الفترة التي كان فيها رئيسا للجمهورية طبقا لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لا تحسب دستوريا، لأنها ولاية جاءت مؤقتة وانتقالية، ولم تحدد فترتها سابقا في القانون، ولا يسري عليها الدستور العراقي لعام 2005.
2- إن ما يسري على ولاية السيد جلال طالباني هو الدستور العراقي لعام 2005 الذي بموجبه شغل المنصب لفترة واحدة فقط في اجتماع مجلس النواب المنعقد يوم 16 من مارس 2006. ولهذا لا يعد ترشيحه لفترة ولاية جديدة في الدورة الانتخابية لعام 2010 ولاية ثالثة، وإنما هي ولاية ثانية جرت حسب أحكام الدستور العراقي الحالي.
لقد ولت سلطة الطغيان في العراق، فمتى تبدأ سلطة القانون؟
* خبير قانوني وعضو لجنة كتابة الدستور العراقي
https://telegram.me/buratha