تحل علينا في السادس عشر من هذا الشهر ذكرى اليوم الوطني للمقابر الجماعية في العراق، وقد احتفل العراق لأول مرة بهذه المناسبة في 16 مايس 2007 بعد أن أقر مجلس الوزراء أحد توصيات المؤتمر الدولي الأول للمقابر الجماعية في العراق الذي عقد في لندن في 16 أيلول 2006 ، والتوصية تقضي بضرورة اعتبار هذا اليوم (السادس عشر من مايس) من كل سنة يوما وطنيا للمقابر الجماعية في العراق وهو اليوم الذي اكتشفت فيه أكبر مقبرة للمغيبين قسراً (المحاويل) بعد سقوط النظام الصدامي البعثي في 9 نيسان 2003 . وتكمن أهمية هذا اليوم في أننا سوف نستذكر فيه هذه الجريمة الكبرى ومظلومية ضحايانا والخسارة الكبيرة التي أحاقت بأمتنا بسبب ممارسات حفنة من البعثيين الطائفيين العنصريين الذين أختطفوا إرادة الشعب العراقي طيلة عقود ، فأهانوا كرامته واختطفوا حريته وحولوا العراق إلى سجن قاس تعطلت فيه الحياة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والإقتصادية ، فهذا اليوم يراد له أن يكون منطلقا للتفكير الجدي في كيفية التعامل مع هذه الجريمة الكبرى ، إذ ليس من ( المعقول ) أن نبقى نجتر أحزاننا وآلامنا على ضحايانا ، أو نبقى نشجب ونستنكر تلك الممارسات البشعة ونلعن من مارسها ، بل أن هناك استحقاقات خطيرة تنطوي على ارتكاب مثل تلك الجرائم ، وهذا ما فعلته الأمم من قبلنا وعلينا أن نقلد على أقل تقدير تلك الأمم في إجراءاتها إزاء ضحاياها أو من ارتكب بحقها مثل تلك الجرائم .فالمقابر الجماعية هي شكل صارخ من أشكال التطهير العرقي والإبادة الجماعية مورس بحق الشعب العراقي في الفترة المظلمة من حكم البعث ، وقد أثبتت وسائل الإعلام المحلية والعالمية ولجان منظمات حقوق الإنسان ذلك ، وأن الإرشيف العراقي يزخر بكل تلك الأدلة التي تدين الجاني وتثبت الجريمة ، التي ترفضها قوانين منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان واللجان التي تهتم بها كلجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أو الإتحاد الأوربي ومنظمة العفو الدولية ، ناهيك من أنها ووفق المادة السادسة والسابعة من قانون العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صدر عن الجمعية العمومية لمجلس الأمن في سنة 1966 يجرِّم الفاعلين دوليا فهي نوع من سلب الحياة للأفراد والجماعات وإخضاعهم إلى التعذيب والإهانة بدون مسوغ قانوني .ومن حقنا بعد أن استعرضنا بشكل مختصر طبيعة الجريمة أن نتساءل ، ماذا فعلنا من أجلها كحكومة وكشعب وكمثقفين ؟ وأنا أتابع هذا الملف منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن وجدت أن الاهتمام الحكومي بهذا الملف يثير الكثير من الأسف ، فقد فشلت كل الحكومات السابقة في أن توفر الحد الأدنى لمتطلبات هذا الملف الكبير ، وحاولت الحكومة الأخيرة ومن قبيل ( دفع الحرج ) إلى إسناد مسؤولية التعامل معه إلى قسم صغير متواضع تابع إلى مديرية في وزارة حقوق الإنسان ، هذا الزهد بهذه المظلمة الكبيرة الخطيرة همشها بشكل خطير ، وبعد ذلك وعلى استحياء شكل مجلس الوزراء في سنة 2005 هيئة للإعداد لمؤتمر دولي للجريمة ، لكن تلك اللجنة البائسة فشلت في القيام بدورها فتحولت بعد ذلك إلى لجنة عليا للمقابر الجماعية ، والذي يثير الإستغراب أيضا هو أن مسؤولية هذه اللجنة أسندت إلى شخص يرأس لجان كثيرة أخرى، وهذا يعني أن ملف المقابر الجماعية يراد له من خلال هذه النقلة أن يُقبر في زمننا كما أقبر ضحاياه في زمن النظام السابق .وفعلاً تم تجميد اللجنة العليا للمقابر الجماعية بسبب عدم اكتراث الحكومة به وقلة تحمس ووعي وكفاءة رئيس اللجنة ، وبقي هذا الملف ولحد الآن يعاني من الإستخفاف الخطير من قبل الحكومة ، إذ لا راعي له ولا ميزانية ولا مسؤول إلا من قسم بائس في وزارة حقوق الإنسان أثبت فشله في القيام بأي عمل من شأنه أن يسترد ولو الشيء اليسير من حقوق الضحايا وذويهم .إذن الحكومات الإتحادية لم تفعل شيئا لهذا الملف الخطير ، بينما نرى أن حكومة إقليم كردستان قد خصصت وزارة الشهداء والمؤنفلين للتعامل مع ضحايهم ، واستطاعت من خلال عمل دؤوب وجدي من توثيق أكثر من 160 ألف من الشهداء وهذا يعني أن عوائل تلك الشهداء قد استلموا حقوقهم الشرعية والوطنية ، فيما لم تستطع لحد الآن الحكومة الإتحادية وبسبب الإهمال الكبير أن توثق أكثر من 32 ألف شهيد من شهداء الوسط والجنوب والذي يقدر عددهم بأكثر من مليوني .نحن نعتقد أن الإستخفاف الحكومي جاء بسبب عدم قيام الأمة بواجبها ، ولو أن الشعب يمتلك إرادة تدعمها وسائل ضغط على الحكومة لأجبرها على تشكيل جهة قوية تتبنى هذا الملف كهيئة عليا أو وزارة أو لجنة متخصصة ، لكن الحكومة وجدت في قلة وعي الأمة بكيفية المطالبة بحقها، وعدم شعور أعضاء مجلس النواب باستحقاقاتهم الوطنية لمن انتخبهم ، فرصة لتأجيل النظر بهذه القضية الإنسانية الخطيرة والمظلمة الكبرى ، وخاصة أن الأحزاب الحاكمة تسعى أولاً إلى ترسيخ أقدامها في الحكم وضمان مستقبل سياسي ، وهي ترى في إثارة هذا الملف عائق كبير في تجاوب الكثير من الكتل السياسية من طائفة أخرى ، تلك الكتل التي ترى في جرائم المقابر الجماعية إدانة لها ،لأنه إدانه صريحة لحزب البعث الذي ترتبط معه طائفيا بل إن البعض الآخر يرتبط معه فكريا وسياسيا . وهذا ليس بدعة وأنما السجال السياسي منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن يشير إلى ذلك بوضوح .أنا أنبه أن التأخير في قيام الأمة بواجبها سوف يؤدي إلى أضرار كبيرة وخطيرة تهدد ملف المقابر الجماعية ، ويسبب إلى ضياع الكثير من الحقوق المشروعة للضحايا ولذويهم وللأمة جميعاً ، وأنا أجمل ذلك في الالخسائر التالية :1- بسبب عدم وجود لجنة خاصة للبحث عن المقابر الجماعية ، ضياع الكثير من المقابر الجماعية الموجودة قريبة من ضواحي المدن بسبب التوسع العمراني ، وهذا يعني ضياع معالم جرائم تلك المقابر وتوفير فرصة للجناة الإفلاة من قبضة العدالة .2- إبقاء الجناة أحرارا لعدم فتح ملف قضائي لجرائم المقابر الجماعية ، بل أثبت الواقع السياسي أن الكثير ممن اشتركوا في هذه الجريمة هم يتقلدون مناصب في الدولة والبعض منها مناصب رفيعة ، وهذا يشكل استفاف خارج بالدم العراقي وبمظلوميو الضحايا وذويهم .3- عدم وجود جهة قوية رسمية أو شبه رسمية تعني بشؤون ملف المقابر الجماعية ، يعني عدم إنجاز أي مشروع يخدم الضحايا وذويهم من قبيل الإهتمام بالمقابر الجماعية من تسييج أو إقامة متحف لمقتنيات الضحايا أو إقامة نصب تذكارية وغيرها أوتوفير الخدمات لذوي الضحايا كمجمعات سكنية أو تقديم امتيازات غجتماعية وغيرها مما يعمل بها في الدول الأخرى .4- حرمان ذوي الضحايا من المنح الكبيرة التي تقدمها الكثير من الجمعيات والمؤسسات الخيرية الدولية والتي تهتم تحديدا بضحايا الحروب والمتضررين من الأنظمة الديكتاتورية أو الكوارث الطبيعية ، فضحايا البوسنة والهرسك وذويهم يستلمون أموالاُ طائلة من منظمات الإتحاد الأوربي بسبب وجود جهات فاعلة تدافع عن حقوق الضحايا وذويهم وهذا ما لم يتوفر في العراق بسبب التقاعس الحكومي .5- حرمان الضحايا وذويهم من التشريعات القانونية التي تضمن حقهم وتسترد كرامتهم وتعيد الاعتبار لهم ، علما أن غالبية ذوي الضحايا من الطبقات الفقيرة التي ما زالت محرومة من أبسط الحقوق الإجتماعية العامة .6- إذا ما بقيت هذه الجريمة تتعرض للتهميش فترة أطول فإنها سوف تتعرض للطمس والنسيان وهذا ما يعمل من أجله أعداء الشعب العراقي وخاصة الكتل السياسية التي لها علاقات بالنظام السابق والتي تحاول الضغط على الأحزاب الشيعية ومساومتها على تحقيق هذا الهدف الخطير ، ولذا فإن على الأمة أن تنتبه لذلك وتقطع الطريق على من يسعى لتحقيق ذلك .7- إبقاء الملف على ما هو عليه يحقق آمال الحكومات الطائفية في المنطقة في عدم الإشارة إلى هذه الجريمة وتفعيلها إعلاميا ، فالمقابرالجمااعية ، جريمة إنسانية خطيرة وذات أبعاد أخلاقية بشعة شاركت الحكومات الطائفية في المنطقة النظام السابق في ارتكابها ، ومن منا لايعلم المساندة غير المحدودة للدول العربية الطائفية للنظام السابق في حربه ضد إيران أو الضغوط التي مارستها على أمريكا للسماح للنظام السبق بتحريك آلته العسكرية لسحق الشعب في انتفاضة 1990 .هذه بعض الخسائر التي تلحق بشعبنا العراقي بسبب عدم التعامل الجدي مع الملف ، لكن ما هو دور النخب المثقفة ومنظمات المجتمع المدني في إظهار هذه الجريمة إزاء التهميش الحكومي ، إذا استثنينا المقالات التي كتبها بعض الشرفاء من أبناء أمتنا والتي إردنا أن نتمعن في ذلك الدور فلا نجد دورا أساسيا غير النشاطات التي قام بها مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات في بريطانيا بإقامة المؤتمر الدولي الأول والذي كان من ثماره هو إقرار اليوم الوطني للمقابر الجماعية ، وكذلك الدور المشرف لمؤسسة شهيد المحراب بالتعاون مع مركز العراق الجديد في إقامة المؤتمر الدولي الثاني في النجف الأشرف في 8/10/2008 والذي شكل حدثاً إعلامياً كبيراً سلط الضوء على مظلومية هذا الملف ، وحضرالمؤتمر رموز سياسية رفيعة كالدكتور عادل عبد المهدي والسيد برهم صالح والكثير من البرلمانيين ، وكنا قد نأمل في أن يكون حضورهم بداية لعمل كبير يخدم الملف ، لكن وللأسف الشديد اقتصر أثرهم في مجرد الحضور ولم يترتب على ذلك الحضور أي أثر إيجابي بعد انتهاء أعمال المؤتمر . وما زال مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات يقوم بنشاطات مستمرة بالتنسيق مع مؤسسة شهيد المحراب ووزارة الشهداء والمؤنفلين في حكومة إقليم كردستان العراق من أجل خلق أرضية قوية يمكن من خلالها إنقاذ هذا الملف الخطير من التهميش الحكومي أو الضياع .إن عمل بعض منظمات المجتمع المدني مع ما تنجزه من أعمال تفعِّل الملف وتبعده عن الانسيان ، لايكفي وحتى الحد الأدنى من إرضاء الضمير ، ضمير الأمة أو المثقفين أو المسؤولين السياسين ، لأن هذا الملف بحاجة لأن نتعامل معه من خلال بُعدَين مهمين ، بُعد محلي يتضمن القيام بتأسيس جهة رسمية أو شبه رسمية تأخذ على عاتقها تنفيذ مستلزمات الملف الكثيرة من تشريع قوانين وتأسيس لجنة للبحث عن المقابر والاهتمام بها ،وإقامة المتاحف والنصب والأعمال التثقيفية ونشر الوعي من خلال تضمين هذه الجريمة المناهج التعليمية أو إقامة الندوات وغيرها من الأعمال التي تجعل الجريمة حاضرة في وجدان الشعب العراقي . وبُعد عالمي يأخذ على عاتقه العمل على إفهام العالم بحيثيات الجريمة وأنها تطهير عرقي وإبادة للجنس البشري ارتكبه النظام الديكتاتوري السابق بحق شعب مسالم ، وخاصة أن الآلة الإعلامية لبعض الحكومات الطائفية في المنطقة وبقايا حزب البعث في الخارج وسائل إعلامية فاعلة تحاول أن تقلب الحقائق وتوصل رسالة خاطئة إلى العالم ، يصبح الجاني من خلالها ضحية .أنا أدعو كل الشرفاء من أبناء شعبنا العراقي المظلوم إلى العمل من أجل الإنفلات من ربقة البرود الذي ينشر وشاحه على الجميع ، والمبادرة بما نمتلكه من قدرة لكي نثبت للعالم أجمع من أن دماء شهدائنا لاتقل في أهميتها عن دماء الشعوب الأخرى ، وأننا شعب لايمكن له أن يصبر على ضيم ولا يهادن في استرجاع حقوقه ولا يقبل بأي هوان من أي جهة في العالم . وأن كرامتنا من كرامة شهدائنا . فالأمة الحية هي من أمواتها أحياء ، وأن الأمة الميتة هي من أحياؤها أموات .•مدير مركز العراق الجديد للإعلام والدراساتعضو لجنة المتابعة لتوصيات المؤتمر الدولي الثاني للمقابر الجماعية ( مؤتمر النجف )
https://telegram.me/buratha