د. صلاح عودة الله-القدس المحتلة
لقد تناول الكثيرون في الاونة الأخيرة في كتاباتهم قضية العنف المجتمعي في الأردن, فمنهم من يتهم الدولة وجهاز أمنها, ومنهم من يتهم العشائرية والقضاء العشائري في ازدياد ظاهرة العنف, واخرون يدافعون عن العشائرية, ومن أهم المقالات التي دافعت عن العشائرية والقضاء العشائري, مقال للأستاذ محمد حسن التل رئيس تحرير صحيفة"الدستور" الأردنية"في مفهوم العشائرية" والذي نشر مؤخرا.ومن المقالات التي تناولت تهميش العشائرية وتغليب سلطة الدولة وقوانينها, مقال للأستاذ جميل النمري"العشائرية والعنف الاجتماعي..حان الوقت لوقفة مراجعة وطنية", ومقال للأستاذ طاهر العدوان"لجنة وطنية لدراسة العنف الاجتماعي". وأرى نفسي بين أولئك الذين يدعون الى تهميش العشائرية بكافة صورها واللجوء الى قانون الدولة..قانون يتمتع بالنزاهة والحيادية والعدل وكذلك الصرامة. العنف كما عرف في النظريات المختلفة: هو كل تصرف يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين وقد يكون الأذى جسمياً أو نفسياً، فالسخرية والاستهزاء من الفرد وفرض الآراء بالقوة وإسماع الكلمات البذيئة جميعها أشكال مختلفة لنفس الظاهرة.ومما لاشك فيه ان الاهتمام والالتفات إلى ظاهرة العنف كان نتيجة تطور وعي عام في مطلع القرن العشرين بما يتعلق بالطفولة، خاصةً بعدما تطورت نظريات علم النفس المختلفة التي أخذت تفسر لنا سلوكيات الإنسان على ضوء مرحلة الطفولة المبكرة وأهميتها بتكوين ذات الفرد وتأثيرها على حياته فيما بعد وضرورة توفير الأجواء الحياتية المناسبة لينمو الأطفال نمواً جسدياً ونفسياً سليماً ومتكاملاً. وتعد ظاهرة العنف بشكل عام من أكثر الظواهر التي تستدعي اهتمام الجهات الحكومية المختلفة من جهة والأسرة التربوية من جهة أخرى. لقد بات مشهد العنف، من المشاهد الأكثر بروزا في الأردن، إذ لا يمر أسبوع من دون أزمة تكون أعمال الشغب والتخريب حاضرة فيها، مما دفع جهات سياسية وحزبية إلى ضرورة تدارس هذه الظاهرة.اللافت في هذا المشهد أن أطراف الأزمة، غير مقتصرة على الفئة الأقل تعليما وثقافة، وإنما تشمل مختلف المستويات الثقافية، وهو ما ينذر بتحول في المجتمع الأردني من مجتمع يعرف بالبساطة والاعتدال، إلى مجتمع يغلب عليه العنف..فقد لاحظنا أن المجتمع الأردني عانى في الاونة الأخيرة من تعاظم حالات العنف في الجامعات والتي لها أسباب "سياسية واقتصادية واجتماعية" بسبب فشل السياسات التي تنتهجها الجامعات في زرع روح التآخي بين طلابها، ورفع مستوى وعيهم الفكري والثقافي والسياسي، فضلاً عما تمارسه من مضايقات تعيق عملهم السياسي والحزبي وتمنعهم من تشكيل اتحاد عام للطلاب الأردنيين ليكون مدافعاً عن هموم ومشاكل الطلبة وانغماسهم بالعمل العام وهموم الوطن بدل استحضار الجهوية والعشائرية، وكذلك غياب واضح لدور الجامعات كمركز بحث وتطوير وتقديم الحلول لمشاكل الوطن والمواطن. إن ظاهرة العنف أخذت تشكل حالة قلق متزايدة تؤرق المجتمع الأردني بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية، وإن أسباب ظاهرة القلق هذه تظهر بصورة جلية في مختلف استطلاعات الرأي والتي يمكن تتبعها من خلال الصحافة ووسائل الإعلام، وأصبحت تداعيات هذا العنف المجتمعي حديث الساعة للغالبية الساحقة من المواطنين في مختلف مجالات تواجدهم وملتقياتهم بلا استثناء، بسبب انعكاساتها على التبدلات في السلوك العام وعلى منظومة القيم الاجتماعية. مرة أخرى تشهد المحافظات والقرى الأردنية مظاهر عنف مقلقة تعيد طرح سؤال العنف في بعديه الإجتماعي والسياسي، وما حدث في الأسابيع الأخيرة لهو خير دليل على ما أقول. الغاء العمل بالقضاء العشائري هو الحل لحالة ازدياد ظواهر العنف بأشكاله المختلفة: بالرغم من قيام الحكومة الأردنية ممثلة بوزير داخليتها بالغاء التعامل بالقضاء العشائري في عام 1976 الا أن الأجهزة الرسمية لا تزال ترعى بشكل أو باخر تطبيق التقاضي العشائري, في سبيل إيجاد حلول للنزاعات بين المواطنين، خاصة في المناطق التي تحتل فيها العادات والقيم العشائرية حيزا واسعا في حياة سكانها.وتتصدر قضية "الجلوة" العشائرية واجهة القضاء العشائري والعادات العشائرية المتبعة بتوسع في الحياة الاجتماعية الحاضرة، وتعني إجلاء عشيرة وأقارب الجاني في قضايا القتل وهتك العرض وغيرها من أماكن سكناهم الى اخرى تجنبا للانتقام ونزعا لفتيل "العداوة" مع أقارب المجني عليه.وتجد قضية الجلوة العشائرية "غطاء رسميا وقانونيا" من قبل الدولة والأجهزة الرسمية، حيث تنفذ بقوة القانون وعبر الحكام الإداريين والأجهزة الامنية.ورغم تأكيد المدافعين عن بقاء العمل بالجلوة على أهميتها وضرورتها لحقن الدماء في النزاعات العشائرية وعند حدوث بعض الجرائم، فإن الانتقادات الشعبية والرسمية تتزايد للتوسع في أحكام الجلوة العشائرية وتوسيع دائرة المشمولين بها من أقارب الجاني او المتهم في قضايا القتل او الشرف.ان الجلوة تتسبب في مشاكل اجتماعية ومعيشية كبيرة لآلاف الأسر، خاصة في القرى والمحافظات، والتي تضطر الى ترك بيوتها وأحيائها وقراها واللجوء الى قرى ومناطق اخرى لشهور وأحيانا لسنوات، فضلا عن تسببها في ترك المئات لوظائفهم او مصدر رزقهم هربا من الانتقام والتزاما بتقاليد الجلوة. رغم وجود بعض الايجابيات للقضاء العشائري, الا أن سلبياته أكبر بكثير, ومن هنا تأتي المطالبة الملحة بوقف العمل بهذا القضاء, فلا يعقل ونحن في مطلع الألفية الثالثة أن يهمل دور قانون الدولة, ولا يعقل كذلك ان تكون هنالك سلطتين تنفيذيتين وكذلك قضائيتين في بلد واحد. ان القضاء العشائري يشجع ازدياد حالات العنف, لأن المجرم يعتمد على عشيرته التي تسند ظهره, فأيا كانت جريمته فانها ستحل بواسطة الفانوس السحري, الا وهو فنجان القهوة, والذي يسبقه التنازل عن فراش العطوة والمبلغ المطلوب دفعه اكراما لوجه الله تعالى ونبيه المصطفى(ص) وجلالة الملك والجاهة الموقرة, ولا أبالغ بأن من يتحمل النفقات في اخر الأمر هم أهل المجني عليه. في جميع دول العالم نلاحظ وجود أعمال العنف بأشكاله المختلفة, وقد ترتفع نسبتها من سنة الى اخرى, أو من بلد لآخر وفق تغير المناخات الاجتماعية والأمنية والسياسية والاقتصادية, ومن أخطر هذه الظواهر هي جرائم القتل, ولكن ما يحدث في البلاد الغربية هو أن من يعاقب هو من قام بتنفيذ الجريمة وليس أقاربه. ولكن ما يحدث في الأردن, لهو أمر يصعب فهمه وادراكه, فالمجرم يجر معه الى ساحة العقاب كل من هو مشترك معه في الدم والنسب, وكأن وجود مجلس أعلى للقضاء, ومحاكم كالقلاع, والاف المحامين في نقابة حرة لا تأثير لها على ثقافة المجتمع, الذي بات ينحدر بسرعة مستسلماً لتقاليد تعتمد على أن تأخذ ثأرك بيدك..انها شريعة الغاب بعينها. والأسئلة التي تطرح نفسها:ما ذنب شخص معين يقتل لأنه يحمل أسم عائلة مجرم قام بما قام به من عمل اجرامي, وقد يكون المقتول بعيدا كل البعد عن قريبه السفاح, وقد يراه بالمناسبات فقط وقد لا يراه سنين عديدة؟, فأين العدل والمنطق؟. ألم يحن الوقت لنقول:نعم لسلطة قانون الدولة, فهو الذي يعاقب ويحاسب, ولنبتعد عن العواطف الكاذبة, ففي معظم الأحيان يطبق المثل القائل"أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب", انها قاعدة بالية متخلفة تدعو الى الى الفتنة والعنف وسفك الدماء. ومن المفروض والمتعارف عليه أن يقوم جهاز الأمن العام بتنفيذ قانون الدولة وانزال أقسى أنواع العقوبات بحق القتلة ومثيري الشغب, ولكن ما يحدث عادة وما حدث مؤخرا هو أن قام هذا الجهاز بأخذ عطوات أمنية من الطرفين لثلاثة أيام وكأنه ليس جهاز دولة وانما"عشيرة ثالثة", هذا الأمر سيقوي سلطة العشائر وسيضعف سلطة قانون الدولة, هذا ان تبقى لهذا القانون سلطة. اننا نطالب بتطبيق قانون الدولة وسيادته وعلى الجميع، وأن يأخذ القضاء اجراءاته، واصدار الأحكام العادلة بحق كل من يعتدي على القانون، كما ونطالب الجامعات بتطبيق العقوبات على كل من تسول له نفسه من الطلبة بأثارة النعرات واستغلال العشائرية في خلق أجواء البغضاء وأعمال العنف داخل الحرم الجامعي، ونؤكد على ضرورة تفعيل دور الأمن داخل الحرم الجامعي في حالة الضرورة للحيلولة دون وقوع أعمال الشغب والعنف داخل الجامعات. قد يقول قائل بأن ما أطالب به يعتبر أمرا مستحيلا, فالعشائرية والقبلية لا يمكن الغائها وتهميشها, وأقول بأن رحلة الألف ميل تبدأ بحطوة واحدة, وعلينا البدء فيها. نعم لقانون الدولة النزيه وغير المنحاز..نعم لالغاء"القانون" العشائري..نعم لتحكيم العقل والمنطق..لا لشريعة الغاب.
https://telegram.me/buratha