كريم الوائلي
احسب ان من المفيد ابتداء ان نبين بعض خصائص وتوصيفات الجريمة الارهابية في العراق الجديد حصرا قبل الولوج في أسسها البنيوية ودون الاشارة الى بعض مظاهرها بعد تأسيس الدولة العراقية او جذورها التاريخية بوصفها تمظهر صاحب نشوء الحياة البشرية منذ اول وابسط اشكالها وصورها ، وقد عرف العراقيون صنف خاص من الجريمة السياسية قبيل وبعد سقوط النظام البائد عام 2003 وهي مقصدنا في هذا المقال ، ومن قراءت المشهد العراقي نستشف خصوصية الجريمة الارهابية في العراق والمبنية على بعدين استراتيجي وتكتيكي والمتميزة بقسوتها المفرطة اذا ما قيست بمثيلاتها في الدول المجاورة التي طالتها الجريمة الارهابية مثل دول المغرب العربي والسعودية والقرن الافريقي وبشكل خاص ما يتعلق باستهداف الانسان العراقي . تميزت الجريمة الارهابية في العراق وفقا لما يتميز به المواطن العراقي نفسه عن غيره من مواطني الجوار ، فالمواطن العراقي هو نتاج المنظومة الثقافية السائدة في بلاده والتي تطغى عليها الثقافة الاسلامية وبشكل اخص المنتوج الثقافي الشيعي ، وقد اشار الى ذلك الشيخ احمد الكبيسي في حديث له لقناة (( العربية )) حيث اشار الى ان الثقافة السائدة في العراق هي ثقافة شيعية وطبعت هذه الثقافة بطابعها كل سكان العراق - انتهى كلام الشيخ - وكذلك الثقافات الفرعية بما في ذلك ثقافة الاديان والاقليات الاخرى كالمسيحية والايزيدية وغيرها ويبدو ذلك واضحا في المنظومة الثقافية المحلية ، وهذه الخصيصة تعد واحدة من مسوغات الجريمة السياسية وهذا التوصيف يمنح الجريمة الارهابية سمة الطائفية السياسية . ومن مزايا المواطن العراقي حرصه على اواصر المواطنة بصرف النظر عن المكون او الطيف الذي ينتمي اليه ثقافيا وهذه المزايا لا تنسجم مع الاهداف الارهابية القامعة للآخر والتي تمنح نفسها الحق في الهيمنة على الارض والبشر والفكر ، اضف الى ذلك ما يتمتع به العراقي من ثراء معرفي وعمق حضاري منحه مصدا للعوز الثقافي وقابلية لاستيعاب المتغير والتعاطي معه وهذا ما يفسر ميل المواطن العراقي الى الجانب الجمالي للحياة من شعر وفن على الرغم من فداحة القمع السلطوي الذي تعرض له لقرون طوال والمراد منها خلق انسان سلبي متورم بالعنت و الكراهية والبداوة . والسمة الاخرى التي يتميز بها العراقي عن غيره من مواطني الجوار شعوره بالشمم والنبل والاستعلاء على الرثاثة والرخص وشعوره بالقناعة والاطمئنان ازاء ما تختزنه ارضه من كنوز مدخرة وهذا ما يفسر صعوبة اقلمة العراقي مع محيطه عندما يهاجر الى اقاليم ودول اخرى وان شاب ذلك بعض الاسى من جراء الحرمان المفروض عليه وعلى ذلك كانت الجريمة السياسية في بداية الهجمة الارهابية تستهدف ذات الانسان العراقي اكثر من استهداف المنشآت الاقتصادية والانمائية . ولا شك بأن الجريمة الارهابية في العراق هي جريمة سياسية ومن طراز مختلف وترتكز على بعد اولي تكتيكي تستهداف حياة الافراد وحرمانهم من الشعور بالامن والامان والسلامة الشخصية واشاعة ثقافة التجهم والخوف والرعب والقلق كي يصل الانسان العراقي الى الحالة العدمية والشعور باللاجدوى من مواصلة الحياة والبناء وتحويله الى عائق بدلا من ان يكون عنصر بنيوي محب للحياة واعمارها وسّباق لعمل الخير وهي بهذا التوصيف تؤسس لنظام سياسي بديل يشكل البعد الستراتيجي لغائية الجريمة السياسية وهي بذلك تختلف عن الجريمة المنظمة التي تستهدف تراكم الاموال والثروات. ولان الجريمة الارهابية في العراق تستهدف الانسان العراقي في المقام الاول فقد حرصت على تجريده من القيمة العرفية التي جبل عليها المجتمع العراقي المتعدد الاعراق والاثنيات وسحق روح التمثل بالمزايا الموروثة التي تشكل شاخص اخلاقي مترع بالقناعات التي يحرص عليها ويقدسها ويركن إليها في الاصلاح ويرجع الى ما تختزنه من ضخ معنوي وعاطفي في مواجهة القهر والاستبداد السلطوي باعتبارها مصدر من مصادر القوة الدافعة للتغيير والنهضة بوجه الظلم والتهميش والاستلاب وعلى ذلك ادرك الارهابيون اهمية تسقيط القناعات المبدئية واهانة الهيبة العرفية وتسفيه المنظومة الثقافية السائدة وذلك باستهداف امكنة العبادة والاضرحة المقدسة والموروث الحضاري والنصب والتماثيل التي تجسد حجم وسعة الثراء المعرفي العراقي وتاريخه النضالي وكذلك قتل العلماء والمبدعين وترخيص قيمة كل الشواخص التي يحترمها العراقي ويعتز بها من اجل تحويله الى كائن سلبي وعدمي تهون في ذهنه قيمة حياة الانسان واسترخاص دمه وسحبه الى مناطق الخرافة والظلامية التي يستوطنها الارهاب . وتتجسد بنيوية الجريمة الارهابية بأنساقها الموازية للتحولات السياسية في العراق وعلى ذلك فقد شهدنا في بداية الهجمة الارهابية التي اعقبت سقوط الدكتاتورية في العراق هجمات ابادة جماعية للمجتمع العراقي وبأساليب غاية في الوحشية مع تمثيل بالجثث وإلقاءها بالانهر كي يطلع عليها قطاع واسع من الناس وكذلك عمليات اغتصاب بحق النساء امام ذويهن واطلاق سراح بعض الاسرى كي ينقلوا المشهد المروع الى الناس املا في سقوطهم في اليأس والاستسلام والقبول بالذل والمسكنة ومن ثم الخضوع لهم والانصياع الى اهدافهم في تغيير قناعات العراقيين قسريا واجبارهم على تبني عقيدة واحدية عمادها الاستعلاء القومي والتكفير والظلامية ، وهذا ، كما هو واضح ، اسلوب بنيوي يراد منه خرق الانساق القيمية للشعب العراقي واجباره على التنصل منها وبهذه التوصيفات تكون الجريمة الارهابية في العراق من الجرائم التي تقع تحت طائلة بند الجرائم المحرمة دوليا. وعندما ايقن الارهاب السياسي ان عجلة التحولات لم تتوقف في العراق وهي محمية من الشعب العراقي بكل مكوناته ومسنودة بمؤسسات دستورية ونظام سياسي برلماني منتخب قابل للتجذير والتطوير ومحفز للتفاؤل بمستقبل افضل - اقول - عندما ايقن الارهاب بهذه الحقيقة اضفى على اساليب جرائمه مواصفات الجريمة الشمولية باستهدافه المنشآت والمرافق العامة والوزارات والسفارات الاجنبية والمنظمات الدولية والممتلكات الخاصة والنيل من ثقة المواطن بمؤسسات الدولة واجهزتها الامنية وهيبتها واستنزاف المال العام وتخصيص ودفع الحكومات الى تخصيص ميزانية خاصة للامن تثقل كاهل الاقتصاد الوطني وتجعله عاجزا عن تلبية حاجات المواطنين ليسهل تأليبهم ضد النظام وتجنيدهم في المخطط الارهابي . وفي السياق اللوجستي والسوقي تظهر بنيوية الجريمة السياسية - الارهابية بشكل اكثر وضوحا ، اذ انها في الغالب تكون مالكة الفاعل الاستباقي تاركة الاجهزة الامنية تلهث وراء اثارها بدلا من ان تكون سَباقة لها ، وعادة ما تنفذ الجرائم السياسية بتضمينات الحرب النفسية على الاجهزة الامنية والمواطنين على حد سواء وعلى ذلك تظهر القوى الارهابية حرصها على زمكانية العمل الارهابي حيث تختار الاماكن المتخمة بالقوى الامنية وتسلك الشوارع المحصنة وتنفذ عملياتها بأنساق متزامنة ومنتظمة وبآليات وادوات متشابهة موحية للقوى الامنية والمواطنين انها لا تأبه بالمؤسسات الامنية ومحدثة شرخا عميقا في العلاقة بين المواطن والجهاز الامني ، ولكي تبدو التنظيمات الارهابية للناس انها متغلغلة في مفاصل الجهاز الامني وموهمة الجمهور بأنها هي من تملك المبادرة تقوم بشراء ذمم بعض العناصر الامنية التي تشكو العوز المناعي ضد الفساد والخيانة والانضباط كما تقوم بفعاليات جرمية تظهر موهبة عالية ودربة متقدمة ومنافسة للجهاز الامني الحكومي كي تعزز عامل الرعب والخوف واليأس في نفوس المواطنين . ومن جهتها تبدو القوى الامنية عدم جهوزيتها المهنية والاحترافية اذا ما قيست بأصغر الدول واقربها عهدا بنشوء الدولة والحكم مثل دبي في قضية اغتيال الفلسطيني ( المبحوح ) على سبيل المثال ، ولم تحمل اجهزتنا الامنية اهمية الموهبة الامنية على محمل الجد في سياقات عملها في حين ان الموهبه هي اهم مواصفات العنصر الامني وكما ان الدراسة الاكاديمية لا تنتج شاعرا او رساما كذلك لا تنتج الاكاديميات الامنية عنصر امني موهوب ، ومن الناحية العملية لا يمكن صنع جيش من الموهوبين الامنيين غير انه من الممكن انتقاء عناصر امنية تمتلك الموهب والحس الامني ومن ثم صقل مدركاتها الامنية اكاديميا وارسالها الى الدول المتقدمة والتي تراعي حقوق الانسان الى جانب تدريث طرق اجتثاث الجريمة بكل اشكالها وما زالت المؤسسة الامنية في غفلة عن ذلك وانشغلت كليَا بتضخيم ملاكها على حساب المهنية والاحترافية وكان بأمكان تجنب فاجعة الجمعة الدامية لو تواجدت في مكان الجريمة عناصر امنية نوعية وموهوبة وتمتلك الحس الامني وتقدر المسؤولية وتتفهم اهمية وشرف الامانة التي استأمنتها، وفي المقابل تتوفر عند العناصر الارهابية عوامل النجاح من مواهب جرمية ومهنية مع اخلاص لنكوصها الاخلاقي مع ان منفذي تلك الجرائم افراد لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة .
https://telegram.me/buratha