حافظ آل بشارة
يقع الجميع في قراءة خاطئة عندما يتصورون ان مشكلة العراق الآن هي : من يكون رئيسا للوزراء ؟ فهذه ليست مشكلة البلد بل هي مشكلة عابرة تمر بها الكتل السياسية وستحل عاجلا أم آجلا واذا حدث ذلك فلايمكن اعتبار النجاح في تشكيل الحكومة حلا سحريا لما يعانيه البلد من معضلات ، هي ليست مشكلة واحدة فتنتهي ، لدينا ارضية ثقافية خطيرة قادرة على توليد مئات المشاكل التي لاحل لها فكلما رتقت من جانب فتقت من جانب ، هناك سياق عكسي تاريخي اصبح يحكم التغيير في العراق فالوضع السياسي وشكل الحكم في اغلب البلدان هو انعكاس لمرحلة ثقافية يعيشها المجتمع وتعبير عنها ، الا ان الذي حدث في العراق ان واشنطن عندما اجرت التغيير اضطرت ان تبدأ المشروع بالمقلوب فأوجدت الديمقراطية التي تم تطبيقها شكليا عبر الاليات والقوانين والمؤسسات المستحدثة بشكل دقيق نسبيا ، وكانت تعلق املا على الرجال الذين كانوا لاجئين في الغرب من حملة الجنسيتين باعتبارهم اكثر معرفة بالديمقراطية ، كانت تأمل ان يتغير المجتمع والنخبة السياسية لاحقا فيكتسبوا ثقافة الديمقراطية روحا وسلوكا ، كمن يؤمن بأن الحب يأتي بعد الزواج في خلاف مع النظرية القائلة بالعكس ، امضينا سبع سنين عجاف تحت خيمة الديمقراطية التي تحسدنا عليها بقية القبائل المجاورة ، لكن من يزورنا داخل الخيمة يجد اننا نمارس حياتنا القبلية بكامل اعرافها التقليدية تحت تلك الخيمة الديمقراطية اللبرالية التي ليس لنا منها الا الاسم والقشر ، هناك مشكلات واقعية وعادات قديمة لاتقرها الارض ولا السماء : عدم قبول الآخر ، عدم قبول النقد والتقييم ، تعطيل المعايير المهنية في السياسة والادارة ، الاستخفاف بالحريات كقيمة انسانية ، اعاقة التداول السلمي النزيه للسلطة ، عدم القبول بالمعايير الديمقراطية ، تعثر ثقافة الوحدة الوطنية لصالح الفئة ، هذه العناوين قائمة في ثقافة المجتمع والنخب ولايمكن تجاوزها والانتقال الى واقع ثقافي جديد بقرار حكومي ، لابد من قرار للامة ، الواقع القبلي المرعب يمكن ان يحول التنافس الحالي على رئاسة الوزراء الى بوابة للجحيم تلتهم الجميع ، الثابت علميا ان كل انسان يميل بطبعه الى اثبات الذات ، وفي المجتمعات الاقل تطورا يعتبر الموقع السياسي الوسيلة الافضل لتلبية هذه الحاجة النفسية ، بينما في المجتمعات الاكثر تطورا تتاح للفرد فرص عديدة لاثبات الذات واشباع تلك الرغبة الطبيعية ، لديهم الفرص كثيرة ولا تسبب تنافسا ولا صراعا وحشيا ، هناك العلوم والرياضة والفنون وهي مجالات واسعة لاثبات الذات ، والمواطنون هناك يحترمون مغنيا او رساما او بطلا رياضيا أكثر من رئيس الوزراء او الوزير ، وقد تكون المناصب السياسية هي آخر ما يطمحون اليه ، في المجتمعات المتأخرة نسبيا هناك ميل للمواقع التي ترمز الى القوة والقهر والخوف والقدرة على قمع الآخر ، وهي ثقافة بدوية آخذة في الانقراض . التحولات الثقافية الايجابية المطلوبة يمكن ان تجري برعاية علماء الدين والمثقفين والجامعات ومنظمات المجتمع المدني ، والخطوة الأولى هي توجيه اهتمامات الجيل الى العلوم والاداب والفنون وتخفيف الازدحام على ابواب السياسة ، وقد اوجد الله لهذه البشرية طرقا لاثبات الذات من خلال منجزات الجسد والعقل والروح في الميادين البناءة ثم العبادة والتزود بالطاقات المعنوية وممارسة اعمال البر ، هذه المهمة التثقيفية لايمكن لاهل السياسة القيام بها انها مهمة المجتمع بطاقاته الاهلية وسواده الاعظم ومبادراته الخيرية التطوعية اما السياسيون فأن اغلبهم يعمل بروح النفعية بتقديم المصلحة الذاتية لذا يعيش العراق الآن فراغا سلطويا خطيرا بسبب عدم وجود ثقافة التطوع والشعور بالمسؤولية الاخلاقية لدى اغلب السياسيين ، فكل شيء لايترجم الى رئاسة تحت الاضواء أو اموال او عقارات أو سيارات فهو عندهم لا معنى له ، بل هو عبث مطلق .
https://telegram.me/buratha