علي السماوي
لم تتغذ مدينة على قيم الثورة وروحها مثلما تغذت عليها مدينة كربلاء المقدسة...ذلك لأنها كانت فطرة نشوئها ولأنها كانت حلتها المتجددة منذ البدء.
يخرج الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) من المدينة بأهل بيته ونفر من أصحابه رافضا تقديم البيعة لحاكم ظالم فاجر وجائر مختصرا موقفه (بأن مثلي لا يبايع مثله)، والإمام هنا ربما كان قد افترض في قرار نفسه بأن أيا تكون نتيجة قراره هذا فهذا ما أرادة منه السماء، حيث هيئة تلك الإرادة الربانية ترابا سيكون له عبق آخر يلتقط جسد هذا الغريب المار عليه وكأنه قصد هذه الأرض أرض الطف لتتساقط عليها دماء هؤلاء الشهداء لتتفتح زنابق حمراء ولتولد كربلاء وليتطابق أسم هذه البقعة من الأرض على مسماها منذ أيام سيدنا إبراهيم (عليه السلام)...كربلاء الأرض المقدسة في سريانية العراق القديم.
وهكذا تشكلت أطراف معادلة كربلاء...الأرض الإنسان والثورة...وكأنه خلل أن يؤتى ذكر الحسين بن علي دون أن يقترن اسمه بالرفض والحرية والعدل والثورة..وكأنه خلل أيضا أن يؤتى على ذكر الثورة دون أن تربط بينبوعها الدائم كربلاء ...حيث الأرض والمكان الذي ستتواصل منه حكاية أولئك الذي علمهم الإمام الحسين كيف يكونون مظلومين فينتصرون.
المكان ذاته والزمان كأن يوم كربلاء هذا مثل أمسه تماما...الثلاثاء الخامس من آذار عام 1991، وأخبار جيش الطاغية المهزوم تأتي تباعا إلى المدينة مترافقة مع أخبار سقوط مدن العراق وقصباته في شماله وجنوبه بيد الثوار المنتفضين.
بعد تطهير المدينة المقدسة من البعثيين القتلة تعيش ليلتها الأولى وهي محررة تماما..ويتم أسر بعض الرموز السيئة ويختفي الآخرون، كما تم إطلاق سراح مئات من السجناء السياسيين الذين كانوا محجوزين في مقر المخابرات ومغيبين في أقبية سرية ومظلمة، لتبدأ بعد ذلك معركة الشرف والحرية والدفاع عن المقدسات، ويستبسل المقاومون في الدفاع عن المدينة المقدسة ويبقى حصنهم الأخير مرقد الإمام الحسين وأخيه أبا الفضل العباس (عليهم السلام)، ويأتي الطاغية القزم حسين كامل المقبور عند بداية الشارع المقابل لمرقد الإمام الحسين (عليه السلام) يأمر ضابطا من أهل الموصل برتبة مقدم كان يقود رتلا متقدما من دبابات الحرس الجمهوري يأمره بإطلاق النار على الحرم، الضابط يرفض ويرد على حسين كامل بأننا أهل الموصل لنا تقاليدنا المعروفة في احترام المساجد وهذا المرقد بغض النظر عمن يرقد تحته ما هو إلا مسجد من مساجد الله، لا تجيزنا أخلاقنا ولا أعرافنا أن نقوم بعمل مثل هذا..يطلق الملعون حسين كامل من مسدسه وعلى الفور النار على الضابط الرافض لأوامره وكذلك على مساعده الذي رفض هو الآخر والذي كان برتبة رائد.
ثم يقوم حسين كامل بنفسه بتوجيه فوهة الدبابة الأولى إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) صارخا فيمن حوله: (أنا حسين وهو حسين ولنر من سينتصر في النهاية)، ثم يمارس حسين كامل الدور ذاته مع قائد رتل الدبابات المتقدم باتجاه مرقد العباس (عليه السلام) وهو ضابط تركماني برتبة عقيد يأمره بضرب المرقد، الضابط يغمض عينيه ويدعو الله متضرعا في نفسه بأن يميته في هذه اللحظة قبل أن يقدم على عمل شائن كذاك.
وفي اللحظة التي دنس أحفاد الطلقاء قدسية هذين الحرمين بأعقابهم نحروا كل من تحصن فيهما من النساء والأطفال والرجال وظلت أجسادهم الطاهرة مرمية لأيام حيث منع النظام دفنها.
لقد دفع النظام المقبور البائد بأشد وحداته المقاتلة ورجاله الحاقدين والغليظين ليتجابه بها وبهم مع المخاطر الكبيرة والمحتملة لاستمرار المقاومة في هذه المدينة التي ما عرفت إلا كونها علما للثورة وشهاب طريقها.
يومها كان الجميع يردد، الانتفاضة قائمة مادامت كربلاء لم تسقط بعد، والانتفاضة مستمرة مادامت كربلاء لا تزال تقاوم. ولكن يوم سقطت كربلاء كأنما سقطت دالة الثورة ولازمتها...إذ سقط بعدها كل شيء وعادت رائحة الموت والدمار والخراب لتلف العراق من جديد.
https://telegram.me/buratha