قاسم العجرش
بعد كل مرحلة انسداد نوعي في مسيرة العراققين، تحدث تفاعلات داخلية تؤدي إلى أوضاع قادرة على خلق أشكال جديدة من الحياة السياسية, وفي معزل عن ترف المجادلة بهذا الموضوع فلدينا التجربة التي أكدت الثغرات الخطيرة التي احتوتها التشريعات الدستورية والقوانين الناظمة للعملية السياسية، والتي أدت إلى تجويف هدف بناء عراق مؤسساتي جديد.. وأقصد من كل ذلك أن مسار العملية السياسية البنائي لم يتمثل تماما هدف الدولة المؤسساتية، وهو وُقِّع في ظروف غير مواتية البتة، في حين أن الهدف المذكور كان طرح في ظرف التوازن الدولي السابق، وفي إطار التوافق الجهادي، وفي ظل ازدهار العمل الوطني، والوطنية العراقية. ومعلوم أن ماحصل من تحول سياسي في العراق جاء ظل هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، وفي ظروف تفكك البنية السياسية العربية خصوصا بعد حرب الخليج وفي وضع كانت فيه النظام الصدامي في حال ضعيفة جداً، وكان يواجه تحديات تجفيف موارده وتقزيم دوره. وقد تبين في ما بعد أن هذا التحول ساهم في تعويم الطبقة المتصدية الآن للعمل السياسي في العراق بدلا من أن يضعها أمام مسؤوليتها، مع أنه أخرجها من مأزقها ولو بثمن الإجحاف المتأتي من هيمنة القرار الأمريكي بشأن القضية الوطنية. وما مخاض الأنتخابات البرلمانية الحالية وإنكشاف الدور الأمريكي والمال السعودي فيه إلا مثال على إنكشاف ظهر تلك الطبقة وعدم إمانها الإمساك التام بزمام الأمور.
وبالنسبة لفكرة التحوّل أو إرهاصات التحول، في المشروع الوطني العراقي، فيمكن إيجاد تعبيرات وتمثيلات عديدة لها، وهي بداهة ليست كلها على النحو الايجابي، فثمة تحولات سلبية أيضا.
فمثلا، فإننا نشهد اليوم مرحلة من أفول الوطنية للعراقيين وإنشداد قطاع واسع منهم الى هويات فرعية ناهيك عن إنشداد غالبية طيف أو مكون إجتماعي يقدر بنسبة 15% من السكان وربما أكثر من ذلك الى الجوار العربي وربط مصيره بإرادة ذلك الجوار، بمعنى أننا بتنا أمام عراقيين كثر (إن جاز القول) تائهي الولاء. أجسادهم في بغداد وعيونهم على الرياض ، بل ان الأمر تعدى أن تكون الأجساد والعيون في عمان التي تحولت الى عاصمة بديلة عن بغداد لعراقيي الترحال الجديد..وإذا أخذنا في الاعتبار أن هؤلاء هم بمثابة مواطنين عراقيين اصلاء، يمكننا أن نحسب التغيرات الحاصلة في ادراكاتهم لذواتهم، ولمصالحهم، وأولوياتهم، لاسيما في ظل انحسارأثر المشروع الوطني العراقي فيهم من دون أن يعني ذلك انتقاصا من وطنيتهم. وقد تفاقمت بذلك تحديات تفكك الهوية الوطنية.. كما هو معلوم فإن الهويات الوطنية لاتنزل من السماء، وهي ليست قيماً مطلقة وأبدية، وإنما يتم صوياغتها بعمليات معقدة ورموز وإطارات مؤسسية ودولتية.
ومع أنه بات لدينا توصيفات مؤسسية إلا أننا نشهد تحولا سلبيا في الهوية الوطنية، بمعنى أن العراقيين باتوا يفتقدون الرموز والإطارات الجمعية، كما باتوا يفتقدون أساسا للمشروع الوطني الملهم والموحد، والذي يأخذ في الاعتبار تباينات ظروفهم ومصالحهم.
والخلاصة ثمة تحول في طبيعة المشروع الوطني وفي بناه وأشكال عمله. فالقوى العراقية اليوم، على تبايناتها، تتصارع على السلطة لا على البناء، وقد تهمشت الدولة وإطاراتها ومؤسساتها، لمصلحة الكيانات السياسية ، ولم تعد الدولة عمود العمل السياسي وبوتقته الصاهرة. وتحولت الدولة الى هدف بحد ذاتها لا الى دولة الهدف..
مقابل هذه التحولات المقلقة، وبغض النظر عن تقويمها، ثمة إرهاصات لتحولات أخرى ايجابية من الصعب الآن رسمها لأنها لم تتبلور.
بمعنى آخر فمن رحم كل هذا الاهتراء والتآكل ، ثمة ما يؤشر في عديد من التجمعات والنخب ، في الداخل والخارج، الى أن ثمة نوعاً من مراجعة جدّية ومسؤولة للتجربة الماضية، بما لها وماعليها. وهي مراجعة للتحول نحو رسم ملامح مشروع وطني جديد يتأسس على عنوان موحد لبناء عراق جديد، في عناوين دولة تحررية ديموقراطية على شكل دولة مواطنين. وهذا التحول يسترجع ويستذكر أشكال الكفاح ضد النظام الصدامي، ووسائل النضال العادلة والمشروعة التي يبيحها القانون الدولي، والتي تساهم في تحوّل جدي في المجتمع ، والتي تجد تعاطفا ودعما في الرأي العام العالمي. وعلى كل فإن هذا التحول يحتاج إلى مزيد من التفاعلات المحلية والأقليمية والعربية والدولية أيضا.
مقابل هذه التحولات، وبغض النظر عن تقويمها، ثمة إرهاصات لتحولات أخرى ايجابية لحظها الزين في مادته، مؤكدا ان "من الصعب الآن رسمها لأنها لم تتبلور".
https://telegram.me/buratha