مقالة للكاتب حسين كركوش منشورة في موقع ايلاف
سأكرر ما قلته في مقالات كثيرة سابقة بأن المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني ساهم، خلال السنوات العصيبة الماضية، في حقن دماء العراقيين، وكان طوال السنوات السبع الماضيات، حارسا للسلم الأهلي داخل العراق، ومدافعا عن وحدة المجتمع. السيستاني، وهو رجل دين وليس رجل سياسة، كشف عن نضج سياسي معقد، لم يتوفر مثله لدى الطبقة السياسية العراقية، وأكد على مواقف عقلانية، خففت كثيرا من غلواء الهياج العاطفي الغرائزي، الذي أججته قوى متطرفة، في الشارع العراقي. ومواقف السيستاني تسامت، كثيرا، على مواقف التحريض المتبادل من لدن بعض الأحزاب السياسية الدينية، وكذلك من لدن بعض خطباء المنابر، والسياسيين المعممين. ولو كان قد توفر مقدار قليل من هذا النضج، وهذه الرؤيا الإستراتيجية العراقية التوحيدية عند هولاء، بمختلف مذاهبهم، لما أريقت قطرة واحدة من دماء العراقيين، ولما كنا قد سمعنا، قط، مفردتي (نواصب و روافض)، أو دعوات انعزالية للتحصن داخل أقاليم مذهبية، وما ظللنا نسمع، حتى هذه اللحظة، صيحات هذيانية مجنونة هدفها فتح صفحات الاختلاف في التاريخ الإسلامي. ولولا موقف السيستاني الرافض للقائمة المغلقة لظهر من جديد مجلس نواب يتألف من ملثمين أو أشباح، وصلوا عن طريق القائمة المغلقة.
وآخر آية من آيات النضج السياسي لدى السيستاني هو، البيان الأخير الذي أصدره مكتبه بشأن الانتخابات التشريعية المقرر إجراءها في السابع من الشهر القادم. موقف السيستاني الأخير هو وثيقة سياسية مدنية تستحق، في رأينا، أن يتوقف عندها كثيرا العراقيون، كل العراقيين، على اختلاف مللهم ونحلهم، ويتمعنون في مراميها. ولأن ما نشره مكتب السيستاني، يتسم بأهمية كبرى، فأننا نفضل، هنا، أن نذكره نصا:
" إن الانتخابات النيابية تحظى بأهمية كبرى ولا سيما في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العراق العزيز، وهي المدخل الوحيد لتحقيق ما يطمح إليه الجميع من تحسين وأداء السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (الحكومة.)ومن هنا فان سماحة السيد - دام ظله- يرى ضرورة أن يشارك فيها جميع المواطنين من الرجال والنساء الحريصين على مستقبل هذا البلد وبنائه وفق أسس العدالة والمساواة بين جميع أبنائه في الحقوق والواجبات، مؤكدا على أن العزوف عن المشاركة- لأي سبب كان- سيمنح الفرصة للآخرين في تحقيق مأربهم غير المشروعة ولات حين مندم.إن المرجعية الدينية العليا في الوقت الذي تؤكد على عدم تبنيها لأية مشاركة في الانتخابات فأنها تشدد على ضرورة أن يختار الناخب من القوائم المشاركة ما هي أفضلها واحرصها على مصالح العراق في حاضره ومستقبله وأقدرها على تحقيق ما يطمح إليه شعبه الكريم من الاستقرار والتقدم، ويختار أيضا من المرشحين في القائمة ما يتصف بالكفاءة والالتزام بثوابت الشعب العراقي وقيمه الأصيلة." انتهى.
"رسالة" عراقية إسلامية "في التسامح"
لغويا، تنتمي مفردات هذا البيان، شأنها شأن كل ما صدر من السيستاني أو مكتبه من نصوص، إلى إرث الأدب السياسي المدني (أو إلى الجانب الأكثر تسامحا في ذاك الأدب) الذي تراكم، منذ تأسيس أول حزب سياسي مدني منذ العقود الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة، ولا تنتمي لمفردات قاموس الأدب السياسي الديني التي شاعت وانتشرت منذ عام 2003. فقد خلت لغة البيان، كما يلاحظ القارئ، من أي مفردة دينية أو مذهبية من تلك المفردات التي بدأ العراقيون يسمعونها خلال السنوات القليلة الماضية في خطاب أحزاب الإسلام السياسي، ولدى (البعض) من المعممين السياسيين، و خطباء المنابر.إن مفردات مدنية، مثل (العراق العزيز، مصالح العراق، المواطنون، الشعب العراقي، التقدم) كادت أن تغيب نهائيا خلال فترة السنوات الماضية من خطاب أحزاب الإسلام السياسي، وكذلك من مواعظ خطباء المنابر، بعد أن كانت حاضرة كالبسملة في خطاب القوى السياسية المدنية العراقية، منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة.أما من ناحية الأفكار التي يتضمنها هذا النص، فأنها توازي، إن لم نقل تتقدم (خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف التاريخية والحالية التي يمر بها العراق) على أفكار ومواقف كبار فلاسفة التسامح في أوربا. إن هذا النص يبدو وكأن صائغه زعيم سياسي مدني، وليس رجل دين. إنه يؤسس لثقافة مدنية متنورة، متسامحة، منفتحة، وبعيدة عن أي انغلاق. فالنص يؤكد على وجود (مدخل وحيد)، وليس عدة مداخل، أمام العراقيين لتحقيق العدالة والمساواة. وهذا المدخل الوحيد هو، مدخل مدني ديمقراطي (الانتخابات)، أي تحكيم أرادة الشعب العراقي كله، وهو مدخل، أو أسلوب سياسي يتلائم مع روح العصر الذي نحيا فيه، الآن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.والنواب الذين يريد البيان، أو يريد السيد السيستاني من العراقيين أن يوصلونهم تحت قبة البرلمان القادم هم، (الحريصون على مستقبل هذا البلد)، وليسوا الحريصين على مستقبل هذا المذهب، أو هذه الديانة، أو هذه القومية، أو هذا الحزب، أو هذه العشيرة، أو هذه المنطقة الجغرافية. و(البلد)، هنا، ليس (بلد إسلام وبلد حرب)، وإنما هو، الدولة القومية المدنية المتعارف عليها في المجتمع الدولي، والتي ظهرت ملامحها للوجود منذ منتصف القرن السابع عشر ( بعد صلح وستفاليا)، بمعنى آخر، الدولة العراقية الحديثة (المدنية)، دولة المواطنة الجامعة الشاملة، والحاضنة لجميع المواطنين ( وليست المكونات) العراقيين على اختلاف معتقداتهم وأفكارهم. فنحن نعرف أن مرشحي القوائم الانتخابية التي تم الإعلان عنها ينتمون إلى ديانات ومدارس فكرية مختلفة، بينهم، المسلم وغير المسلم، بينهم من ينتمي إلى الأحزاب الدينية، ومنهم من ينتمي إلى الأحزاب الديمقراطية الليبرالية، ومنهم من ينتمي إلى الأحزاب اليسارية الديمقراطية، منهم المحافظ المتزمت الذي يقدس كل التراث حرفيا، ومنهم الحداثوي الناقد للتراث والمنفتح على جميع تجارب البشرية. وهولاء كلهم يؤكدون على حرصهم على مستقبل البلد / العراق. بيان مكتب السيد السيستاني لم يفت ولم يأمر بانتخاب واحد من هولاء، أو كتلة سياسية بعينها، إنما ترك للناخب العراقي وحده، حرية وحق التمييز، واختيار( الحريص والأفضل) من بين هولاء، وفقا لتقدير الناخب وحده، ووفقا لما تمليه عليه قناعته. بالطبع، قد نجد من سيحاول توظيف هذا البيان لصالحه هو، دون غيره، وسيقول أن السيد السيستاني يقصدنا نحن، وليس غيرنا. إلا أن أقوال و(تخريجات) كهذه، إن حدثت، لن تكون المرجعية مسؤولة عنها. فالنص واضح جدا في حياديته.والسيستاني عندما يؤكد على ضرورة مشاركة العراقيين في الانتخابات القادمة، فإنما يريد للناخبين أن يقطعوا الطريق أمام (الآخرين)، ومنعهم من (تحقيق مأربهم غير المشروعة). وهولاء (الآخرون) ليسوا فئة أو جماعة بعينها، وإنما هم (جميع) الذين يرفضون الانتخابات، أي يرفضون الأسلوب الديمقراطي في حكم البلاد، ويتوسلون بالعمليات الإرهابية، أو بالانقلابات العسكرية، أو يستعينون بقوة المليشيات، أو بالجماعات الخارجة عن القانون، أو بالمجاميع الخاصة، أو يعمدون إلى تهييج المشاعر المذهبية. باختصار، جميع الذين يتوسلون بالأساليب الديكتاتورية غير الديمقراطية (غير المشروعة)، لفرض وجهات نظرهم. ف(المأرب غير المشروعة) لا تتحقق إلا بأساليب غير مشروعة. وبما أن السيستاني يرى أن الانتخابات هي (المدخل الوحيد) لتحقيق العدالة، فأن أي أسلوب آخر، مهما كانت العباءة التي يختبأ داخلها أصحابه، هو أسلوب باطل، حتى لو كانت حجج أصحابه هي، الدفاع عن الدين أو الدفاع عن المذهب، أو الدفاع عن التقاليد والأخلاق. أي، أن السيد السيستاني سد الطريق، نهائيا، أمام أي فرد، أو أي جماعة تتوسل بالعنف، أو بأي أسلوب غير ديمقراطي، لتغيير الأوضاع، استنادا على حق يطالبون به، أو شرعية يقفون وراءها. الشرعية الوحيدة هي صناديق الانتخابات، أي خيارات الناخبين وإرادتهم.وعندما يؤكد السيستاني أن المرجعية الدينية لا تتبنى أي قائمة انتخابية، وعلى ضرورة أن يصوت الناخبون للقوائم (الأفضل والأصلح) فإن ذلك يشير إلى أمور كثيرة، منها حرص المرجعية على أن تؤكد، مرة أخرى، على أنها مرجعية دينية وحسب، لا تتدخل بالشأن السياسي، لا من قريب ولا من بعيد، والتأكيد على حرصها، أيضا، على رفض المحاولات التي قامت وما تزال تقوم بها بعض الجهات لزج المرجعية في معمعة الشأن السياسي، أو محاولات البعض الأخر للاستحواذ على المرجعية، وتصوريها للعراقيين وكأنها ملكهم وحدهم، دون الآخرين، سعيا منهم لتحقيق أهداف حزبية ضيقة. الأمر الأخر هو إصرار المرجعية على تعزيز أجواء الحريات العامة، وتعزيز ثقة الناخبين بأنفسهم ونزع الخوف من قلوبهم، وتبديد الضغوط التي قد يتعرضون لها من قبل هذا الحزب أو ذاك، أو من قبل هذه الجهة الدينية أو المذهبية، أو تلك.إن الدعوة لانتخاب (الأفضل والأصلح) من بين المتنافسين تعني، بالضرورة، أن المرشحين للانتخابات متساوون تماما، عند المرجعية، يستوي في ذلك المسلم والمسيحي والصابئي واليزيدي، العربي والكردي والتركماني، السني والشيعي، العلماني ومن يريد إقامة دولة دينية، الليبرالي والماركسي، الحزبي والتنكنوقراط. أكرم هولاء عند المرجعية الدينية هو، (أفضلهم) في تقديم البرنامج السياسي لخدمة المواطن، و(أصلحهم) في حكم البلاد.هذه المواقف التي وردت في البيان الأخير لمكتب السيستاني هي، تكملة للمواقف السابقة للمرجع السيد علي السيستاني. وجميع مواقف السيستاني هي امتداد للمواقف المتسامحة للمرجعية الدينية في النجف الاشرف. ومواقف المرجعية هي امتداد وتعزيز لمواقف الإسلام (العراقي) عموما، بطرفيه، الشيعي والسني، البعيد عن التزمت. ولولا تسامح الإسلام (العراقي)، لما شهدت عاصمة الخلافة بغداد، وكانت في أشد مراحل بطشها وجبروتها، وقوتها العسكرية، مدارس وحركات وصرعات فكرية وثقافية متنوعة، كان بعضها لا يخفي تعارضه مع الدين. ولولا استمرار تقاليد التسامح هذه، وتجذرها وتراكمها، لما استطاع المجتمع العراقي الحديث أن يحقق، خلال فترة زمنية لا تعدى القرن الواحد، أي منذ نهاية العهد العثماني وتأسيس الدولة العراقية الحديثة، نهضة نوعية متوازنة، ميزته عن بعض المجتمعات العربية المجاورة التي عاشت نفس الفترة ولديها، هي أيضا، مرجعية دينية. وبفضل قيم التسامح حقق المجتمع العراقي نهضة شاملة ومتوازنة، تمثلت في ظهور دولة مدنية حديثة، وظهور جيش وطني موحد وجهاز إداري موحد، وانتشار التعليم المدني في جميع مراحله، وخصوصا تعليم الإناث، وتزايد التعليم المختلط في الجامعات، وحصول المرأة العراقية على مكانة مرموقة داخل المجتمع، حتى أنها أضحت وزيرة قبل أكثر من نصف قرن. وشهدت هذه المسيرة ظهور حركات تجديد في جميع مجالات النشاط الحياتي: في الشعر، والغناء والمسرح والصحافة والاكتشافات الاركيولوجية، والتأليف البحثي الناقد للتراث. وخلال هذه الفترة اختفت عادات وتقاليد، وأنماط سلوك وأزياء قديمة تقليدية، وظهرت مكانها أخرى حديثة ما كانت سائدة ولا معروفة في المجتمع العراقي قبل الحرب العالمية الأولى.وما كانت تلك التغيرات والتطورات تحدث دون علم المرجعية الدينية، لكن التاريخ لم يسجل لنا حالات كثيرة وقفت فيها المرجعية موقفا مانعا أو كابحا ضدها. وحتى تلك الحالات (وهي نادرة) التي أحيل بسببها بعض المثقفين إلى المحاكمة أو تعرضوا إلى مضايقات، بسبب أرائهم، فأن ذلك تم أما بطلب من الحكومة (قضية الشاعر حسين مردان، مثلا)، أو بفعل من الأهالي (قضيتا الزهاوي وعلي الوردي).وموقف المرجعية المتسامح لم يكن بسبب عجز منها أو كسل أو لاأبالية، أو نقص في الأتباع والمريدين، وإنما كانت تفعل ذلك انطلاقا من فلسفتها وقيمها المتسامحة، الرافضة للتعصب، مثلما أن موقفها المتسامح ما كان يعني، قط، تساهلها في أمور الدين، وعدم غيرتها عليه، أو سكوتها عن أي إساءة تلحق به.
من هنا، فأن موقف المرجع الحالي السيد علي السيستاني ليس غريبا، إنما هو، كما ما قلنا، امتداد لمواقف المرجعية، عموما. ونحن نذهب أبعد من ذلك فنقول أن البيان الأخير الذي أصدره مكتب السيد السيستاني، شأنه شأن مواقفه السابقة الأخرى، إنما يعيد للأذهان الدور التنويري العقلاني الرائد الذي أنجزه بعض رجال الدين المتنورين في إشاعة ودعم أفكار عصر التنوير الأوربي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فالمعروف أن أفكار حركة التنوير الأوربية ما كانت تسير، وقتذاك، بنسق واحد ووتيرة واحدة في جميع الدول الأوربية. فالأوضاع في فرنسا وهولندا، آنذاك، غيرها في ألمانيا وانكلترا، وأوضاع هاتين البلدين غيرهما في اسبانيا، مثلا. وكان لرجال الدين دور في هذا التفاوت. فمثلما وقف رجال دين متزمتون، بشدة، ضد أفكار التنوير، فعرقلوا أو أخروا انتشارها، وقف آخرون بتعاطف وبتسامح وبعقلانية مع تلك الأفكار، فسرعوا عملية التغيير. ويرى بعض المؤرخين الأوربيين الذين تصدوا لكتابة تاريخ ذاك العصر، أن بعض رجال الدين، وقتذاك، كانوا أكثر تقبلا للأفكار الجديدة، حتى من بعض العلمانيين من مجايليهم.
وأي مقارنة، ولو سريعة، بين مواقف المرجع السيد علي السيستاني من جهة، وبين مواقف بعض القوى السياسية الدينية وبعض خطباء المنابر، وبعض المعممين السياسيين، تقود إلى أن السيستاني متقدم كثيرا على هولاء. فالتشدد المبالغ فيه على سلوك النساء، والمطالبة الحالية بتعديل المناهج الدراسية، وفصل الإناث عن الذكور في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، وتحريم الموسيقى، ومحاربة الفنون بأنواعها، وترويج الخرافة والشعوذة، والمطالبة بتواجد محرم لكل امرأة تعمل في دائرة رسمية هي، كلها، أمور ليست للمرجعية علاقة بها. هذه أمور ينجزها سياسيون معممون (موظفون رسميون) في مجالس المحافظات، أو تصدرها مليشيات تابعة لجهات دينية سياسية، أو يصدرها مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى لأهداف حزبية تخصهم، لكن هولاء كلهم يلقون تبعية هذه الأفعال على عاتق المرجعية، بينما لا علاقة للمرجعية بها.إن العراق يمر، بعد أن تخلص من أسوأ نظام ديكتاتوري شمولي، (بظروف عصيبة). وهي ظروف عصيبة، ليس، فقط، بسبب فقدان الأمن وانعدام الخدمات، وانتشار الفساد الإداري، ونشاط المليشيات المسلحة، فهذه أمور، مهما صعبت، سيتم تجاوزها غدا أو بعد غد. العراق يمر بظروف عصيبة لأن المجتمع العراقي، في كل مناطقه، وبكل مذاهبه، يقف بين مفترق طريقين، تقف عندهما ذهنيتان متباينتان: أحدهما، ذهنية متشددة في تعصبها، تصر إصرارا على العودة إلى الماضي التليد، وإخراج ذاك الماضي من قبره وإعادة الحياة إليه بدعوى الدفاع عن الدين والمذهب، تدعمها وتتشارك معها ذهنية قروية ترفض أي محاولة للتجديد، بدعوى احترام التقاليد والعادات المحلية.والذهنية الأخرى هي، ذهنية منفتحة، مدينية، متسامحة تريد السير صعدا في طريق ترسيخ الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة، والمساهمة في تحديث ورقي العراق، ليس بتحقير الدين وإشاعة الإلحاد، وإنما بالتأكيد على احترام وتبجيل الدين والمذهب، بل وتقديسهما، لكن بانفتاح الدين على روح العصر، وتصفية المذهب من كل الخزعبلات التي علقت به، وتشذيب التقاليد.
وهنا، يقتضي منا الإنصاف أن نشير إلى مسألة مهمة جدا هي، أن الأحزاب العراقية السياسية الدينية الكبرى، الشيعية والسنية، كشفت، بقدر لا بأس به، وخلال فترة زمنية قصيرة، عن رغبات وإمكانيات لتطوير برامجها وتعديل وجهات نظرها. ولو قارنا بين تفكير هذه الأحزاب قبل ست سنوات، وتفكيرها حاليا، لوجدنا بونا شاسعا، أقله فيما يخص الابتعاد عن التخندق المذهبي، والتأكيد على بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية.لقد توفرت أمام الأحزاب الإسلامية السياسية فرصة ذهبية قد لا تتكرر لابتداع أسلوب و فلسفة، لا تقودان إلى إحداث قطيعة بين الدين والدولة، وإنما تزاوجان بين الإسلام وبين شروط روح العصر الذي نحيا فيه. وهذه الأحزاب تملك كل المقومات لخوض تلك المعركة: ثروة مالية هائلة، طبقة متعلمة تتزايد يوما بعد يوم، تأييد وتقبل واسعين من المجتمع المدني العراقي لكل محاولات الانفتاح، بالإضافة، بالطبع، إلى دور المرجعية المؤيد لهذه التغيرات. وهنا، بالذات تكمن قوة ومصداقية التحولات التي ستحدثها هذه الأحزاب، لكن شرط أن تتوفر عند هذه الأحزاب نفسها القوة والمصداقية.
https://telegram.me/buratha