أحمد سعيد / أستراليا
النجف وإرث التاريخ
يستوجب الدخول الى العالم الحقيقي للتشيع المرورمن البوابة الرئيسة لهذا العالم لمعرفة اصول وضوابط عقيدة وفكرة التشيع وعليه كانت النجف ولاتزال هي الحاضرة الاولى والاهم ان لم تكن الوحيدة التي يمكن للمرء أن ينهل فيها من منبع التشيع ويتعرف على مرتكزاته وضوابطه الحقيقية والتي تمكنه بالتالي من سبرأغواره ومعرفة كهنوته . ولقد قيل عن النجف :(( هي تلك المدينة التي تحملت أعظم المسؤوليات وأستودعت أعظم وأغلى ألامانات ولقد عرفت كيف تقوم بأعباء المسؤولية وتحافظ على الأمانة فدافعت وناضلت في سبيلها بكل ما أوتيت من قوة وحول ، وتحدت الزمن ، وتحملت كل النوائب والعوادي التي تنوء بأدناها دول ، وتعجز عن حملها أمم وشعوب .هي تلك المدينة التي تضم جثمان رجل لا تحصى فضائلهُ ولا تعد مناقبه ، وكيف تعد فضائل رجل أسرّ أولياؤه مناقبه خوفاً ، وكتمها أعداؤه حقداً ، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين على حد تعبير الشافعي ، وهو الذي لو أجتمع الناس على حبه كما يقول الرسول الاعظم صلى الله عليه وعلى اله وسلم لما خلق الله النار.رجلٌ هو أفضل هذه الامة مناقب ، وأجمعها سوابق ، وأعلمها بالكتاب والسنّة ، وأشدها إخلاصاً لله وتفانياً في سبيله ، ذلك هو أسد الله الغالب الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه صلوات الله وسلامه عليه . ))تقع مدينة النجف على بعد 165 كيلومترا جنوب مدينة بغداد ، وتعلو سطح البحر بحوالي 70 متراً ، مناخها حار جاف صيفا وتصل درجة الحرارة فيه الى اكثر من 48 درجة مئوية ، وبارد قارص شتاءً ، ويصل معدل سقوط الامطار فيها من 1-5 قطرة في كل بوصة ، وتهب عليها رياح السموم وذلك لوقوعها على طرف الصحراء ، وفي النجف نوع من الحجارة يعرف ب(در النجف ) له صفاء وشفافية الزجاج ويستخدم في التختم والتزين .
في عهد الدوله الاموية نبش الحجاج بن يوسف الثقفي ثلاث الاف قبر في النجف بحثاً عن قبر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وبأمر الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان من أجل أزالة أي أثر أو تراث للامام عليه السلام ولكنه وبفضل الله عجز عن ذلك ، وكان الائمة من وِلدْ الامام يسعون الى إخفاء قبره الشريف حفاظاً عليه .وبعد أظهار القبر الشريف للامام علي بن أبي طالب عليه السلام فيها سنة 170 هجرية بدأت تظهر المباني والعمارات حول المرقد المبارك وتوافد إليها العلويون وأتباعهم وأشياعهم حتى بلغ عددهم ستة الالاف نسمة في ذلك التاريخ .ووصفها أبن بطوطة حين زارها في سنة 727 هجرية بأنها أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً ، وأتقنها بناءً ، ولها أسواقاً حسنة . برز دورها الديني والسياسي في القرن الخامس الهجري حينما قدم عليها الشيخ أبو جعفرالطوسي رحمه الله والمعروف بشيخ الطائفة فأصبحت محطة الانظارمن سائر الاقطار ، لما كان يتمتع به هذا العالم الجليل من الذكاء والمعرفة في الفقه والاصول والحديث والتفسير وعلم الكلام .وبعد إحتلال العثمانين للعراق سنة 1534م أصبحت النجف في شد وجذب ما بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية فتلك تهدم وتبطش بالمدينة وعلماءها وسكانها ، وأولئك يبنون ويعمرون المرقد الشريف وما حوله من المساجد والابنية ، ثم اصبحت مدينة النجف بعد ظهور الوهابية في الحجاز عرضة للعديد من الغزوات والهجمات التي كانت تستهدف محاولة هدم وأزالة مرقد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، واستمرت هذه الغزوات الوهابية حتى دخول الانكليز بغداد عام 1918 . وكان للنجف وعلماءها دوراً أساسياً وبارزاً في أحداث ثورة العشرين التي قام بها الشيعة ضد الاحتلال البريطاني للعراق وأصدر كبار مراجعها العديد من فتاوي الجهاد ضد الانكليز وأستشهد الكثير من علماءها أثناء القتال في هذه الثورة ضد الانكليز ولازال تمثال السيد محمد سعيد الحبوبي والذي أستشهد في معارك الثوار ماثلا في قلب مدينة الناصرية التي أستشهد فيها وكانت المركز الرئيسي والمنطلق لمعارك الثوار في ذلك الزمن .كما تعرضت النجف وحوزاتها العلمية لمضايقات الحكم الملكي في العراق ، وكان كبار مراجعها ومفكيرها عرضة للنفي والتنكيل من قبل سلطات الحكم انذاك ، وخصوصاً بعد تمكن البريطانين من قمع ثورة العشرين وتصفية رموزها السياسية والدينية .ولربما كان الانصاف الوحيد للنجف وحوزاتها خلال كل تلك المراحل التاريخية هو في الفترة الاولى لتأسيس الجمهورية العراقية وبالاخص مرحلة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ، والذي اعطى النجف ومراجعها اهتماما مميزاً وسعى جاهداً لاعطاء المرجعية بعض الاولويات في الكثير من القضايا الهامة في تلك المرحلة ، فعلا سبيل المثال بعد أصدار قانون الاحوال الشخصية العراقي والذي اعتمد على التشريعات الوضعية في بنوده ، عمت العراق مظاهرات حاشدة ضد هذا القانون ، وبعد مقابلة الزعيم لوفد من علماء بغداد انذاك والذين كانوا يطالبون بألغاء هذا القانون ، رد عليهم الزعيم عبد الكريم قاسم قائلاً ، انتم موظفون لدى الدولة وتتلقون رواتب شهرية منها ، والشخص الوحيد الذي له حق الاعتراض هو هذا ، بعد ان فتح دُرج مكتبه وأخرج صورة المرجع الديني الشيعي اية الله السيد محسن الحكيم .وعلى العكس منه كان سلوك عبد السلام عارف والذي أنقلب على قاسم وتولى زمام الامور في العراق عام 1963 والذي كان ينادي بالانتماء للقومية والناصرية (نسبة لجمال عبد الناصر ) ، ولاقى الشيعة الويلات منه ونكل بقياداتهم ومراجعهم ، ومنع ممارساتهم وطقوسهم الدينية حتى وصل به الصلف والغي انه كان يطالب بمصادرة الذهب الموجود على قُبب مراقد أئمة اهل البيت ، ولازالت (هوسة) الشيعة الشهيرة (( صعد لحم نزل فحم .. ضربة حيدرية )) تطن في الاذان ، وكانت لتلك (( الهوسة )) مناسبة مفرحة في قلوب الشيعة أثناء أحتراق وسقوط طائرة عبد السلام عارف في البصرة بعد منع الشعائر الحسينية الشريفة بايام قليلة .وبما ان ثورة 1991 المباركة هي شيعية سياسية في تواجهاتها وان كانت هناك بعض الطوائف الاخرى قد شاركت في احداثها ، الا إن التوجه العام لتلك الثورة كان شيعيا محضاً وبالاخص بتقديرات السلطات البعثية الحاكمة في العراق في تلك المرحلة . وعليه فان الثورة كانت في امس الحاجة للحصول على دعم وتأييد زعامات ومراجع الشيعة في عاصمتهم الكبيرة حتى تكتسب صفتها الشرعية من ذلك التاريخ العريق لها وتذيب ما في النفوس من شك او قلق حيال العمل الثوري الذي كان بحاجة ماسة وضرورية لالتفات الزعامات الدينية في النجف حوله ، وقيادة جماهيره وتنظيم عملها وتوجيه مسارات الثورة بالشكل الصحيح ، لا سيما وان الزعامات السياسية الغير دينيه في العراق كانت غير موجودة في الاصل بسبب بطش وتنكيل حزب البعث بتلك الزعامات والقيادات منذ الايام الاولى لتوليه زمام الامور في البلد ، وعدم سماح سلطات البعث لتشكيل أي حزب سياسي داخل العراق عدا حزب البعث الحاكم وقتذاك .كان من أهم منجزات سلطة البعث بعد توليها زمام الامور في عام 1968هوالتوجه نحو النجف والعمل بشكل حثيث على تذويب المذهب الشيعي وتصفية مفكريه واعلامه ومراجعه ، لما يحمله هذا الفكر من روح ثورية ونضالية ، ولان من أهم ركائزه وتوجهاته هو السعي لتحقيق العدل الاجتماعي والمناداة بالمساواة بين الطبقات الاجتماعية ولان اهم أركان عقيدته تعتمد على الوقوف بوجه الظلم والظالمين ، والثورة على الطغاة والمتجبرين .وعليه فقد تمكن النظام الحاكم بعد وصول صدام حسين للسلطة سنة 1979 من تصفية أهم وأبرز رموز الشيعة وابطالها وعلى رأسهم المناضل الكبير الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر ومجموعة كبيرة من أتباعه وتلامذته في حملة قمع طائفية كبيرة مر بها العراق في فترة السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم وترتب عليها اعدام السيد الشهيد الصدر وأخته المفكرة الاسلامية نور الهدى وذلك في عام 1981 ، وما تبع هذا التاريخ من عمليات تصفية واغتيال وقتل لكل الرموز الدينية والسياسية البارزة في العراق وأستمر هذا التنكيل والتصفيات حتى سقوط نظام البعث في نيسان من عام 2003 .وعليه فقد تباينت الاراء بين التخاذل والعقلانية فيما يتعلق بموقف المرجعية الدينية في النجف الاشرف أزاء ثورة 1991 .وسوف نرد التفاصيل في الحلقة القادمة .
https://telegram.me/buratha