علي محمد البهادلي
قبل أن يبزغ نور الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، كانت تعيش هذه المنطقة جواً بدوياً شديد الخشونة ، ولم يكن فيها من يعرف القراءة والكتابة سوى أشخاص قليلين ، وكانت ظاهرة وأد البنات متفشية في هذا المجتمع وكذلك قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق ، أما الكلام عن وجود إرث ثقافي وحضاري في مكة التي كانت مولد النبي محمد (ص) فهو أقرب إلى " السالبة بانتفاء الموضوع " ويكاد يكون معدوماً حتى في المدينة والطائف عدا بعض الثقافة المتواضعة التي كان يمتلكها اليهود والمسيحيون في المدينة والطائف . العالم كله لم يكن يحسب حساباً لهذا المنطقة ، والمنافسة التي كانت على أوجها هي بين دولة الروم ودولة الفرس ، لكن فجأة يعلن رجل راعي غنم أنه مبعوث من الله رحمة للعالمين لينقذهم مما هم فيه من الجهل والتخلف وسيادة قيم الغاب ، ولينتشلهم من العادات والتقاليد التي تسيء للإنسانية ، وليضع عنهم الإصر والأغلال ، ويرتقي بهم إلى قمم العز والشموخ والكبرياء والكمال . الكل قد استهزأ بهذا الرجل إلا قليل من المستضعفين الذين لا يمتلكون شيئاً يقاومون به تلك الأوضاع ومساندة صاحب الدعوة إلا الإرادة والعزيمة الصلبة ، فانطلقوا في البداية ليعلنوا ثورة " اللاعنف " بوجه سادة مكة وإقطاعييها ، الذين ما فتئوا يسلبون حرية الإنسان ويستغلون قواه البدنية من أجل الجمع والإثراء . لم يتمكن سادة مكة صد هذا السيل الجارف الذي يهدد مصالحهم ، وحاولوا بكل ما استطاعوا من قوة لإجهاض الدعوة في مهدها بالقوة والترهيب ، لكن عبثاً ما كانوا يصنعون ، فهذه الثلة الثورية قد انتفضت ولن يقف بوجهها لا سادة مكة ولا أباطرة الروم والفرس فيما بعد ولا حتى الجبال الرواسي ، وبعد المضايقات الكثيرة التي وجِّهت ضدهم قرر صاحب الدعوة اللجوء إلى خيار الهجرة ، فالدعوة يجب أن تتحرك والأساليب يجب أن تكون مرنة ، بحيث تبحث عن بيئة تصبح مساحة لتحرك قيادات الدعوة بحرية ؛ لتشكيل النخبة المؤمنة التي تستطيع فيما بعد الانطلاق خارجها لبث الدعوة ونشرها في أرجاء المعـمورة ، وهذا ما حـدث بالفعل . فاجأ محمد الجميع بافتتان الناس بدعوته ، ودخولهم زرافات ووحدانا فيها فهو الساحر بمشاعره الإنسانية العالية وأسلوبه اللين ، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله : " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " "وإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " . بل صعقهم بخطوة جريئة يضحك منها كل من كان يعرف قدر الإمبراطورية الفارسية والبيزنطية ، فبعث بكتب إلى قيصر الروم وكسرى الفرس وإلى المقوقس ... لكن أغلبهم استصغر صاحب الرسالة ، وبلغ بهم الاستهزاء والعنجهية والاعتداد بالنفس أن مزقوا تلك الكتب ، ولم يعلمـوا ما يخبئ لهم الدهر . بعد سنوات قلائل اكتسح النبي وحوارييه مكة وفتحوها سلمياً ، وبعث جيوشاً إلى عدة مناطق لتحررهم من تسلط الطغاة المستبدين الذين يبيعون ويشترون الإنسان دون رحمة أو شفقة ، ويسلبونه حريته في القول أو الفعل ، لكن ـ يا للأسف ـ لم يمهله الموت ؛ ليصل إلى أهدافه النبيلة تلك ، لكنه رسم الخطوط العامة التي يجب أن يتحرك على وفقها القادة المسلمون لنشر الدعوة وتحرير الإنسان من عبادة الإنسان ، والاتجاه نحو عبادة رب واحد دون جبر أو إكراه ، فالقرآن الكريم يقول " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فالدعوة يجب أن تأخذ أسلوب الرفق واللين لا الأسلوب البدوي الخشن المتعجرف ، قال تعالى " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " خلال قرن أو قرنين أصبح دين محمد قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى أبعد نقطة في العالم ، فهو قد وصل إلى مشارف أوربا وحدود الصين ، لكن تعثر التجربة كان بسبب بعض السلوكيات والممارسات غير الدينية التي كان يسلكها " الفاتحون " فلم تعد مسألة نشر التعاليم الثورية والدعوة إلى العلم والإيمان بالله هي المبتغى ، فقد استبدلت بأغراض أخرى هي النهب والقتل واقتناص الجواري . على الرغم من كل ذلك تحققت بعض الإنجازات الكبيرة ، فهذه الأمة البدوية التي تفتقر إلى الإرث الحضاري والعلمي أصبحت تقود مساحة كبيرة من العالم القديم ، واستطاعت الإطاحة بالدولة الفارسية ، أما الروم فقد أصبحوا يحسبون لها ألف حساب ، أما على الصعيد العلمي فانتشرت المعارف والمكتبات بشكل يعجب له القاصي والداني والعدو والصديق ، وألف العلماء المسلمون مئات الآلاف من الكتب في مختلف المجالات العلمية كالفلسفة والمنطق والطب والجبر والكيمياء والفلك ، فضلاً عن علوم القرآن والفقه وعلم الكلام والعربية وعلم الأخلاق ، وأسماء مثل ابن سينا أو الزهري وابن الهيثم وابن حيان وغيرهم كانت أحدى العجلات التي سارت بها عربة التقدم والنهضة الصناعية في أوربا ، فكتب أبي علي بن سينا مثلاً كانت تدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر . الحقيقة التي لا بد أن يعرفها العالم أن محمداً الذي لم يصدق المستشرقون أنه أتى بهذا الدين من عنده أو "من ربه " وإنما استعان بأناس لهم خبراتهم السابقة وثقافتهم الدينية كبحيرة الراهب وغيره ، هو معجزة الدهر ومغير أمة كانت أبعد ما تكون عن المفاهيم الحضارية والقيم المعنوية السامية إلى أمة غزت بفكرها معاهد أوربا ، وغدت محطة لملتقى الحضارات وحوارها ، فلم يسجل المؤرخون قبل التجربة الإسلامية أن هناك أمة قامت بالانفتاح على الآخرين وترجمة كتبهم والإفادة منها ومن ثم تصديرها ثقافة تلك الأمة إليها بعد أن اندثر تراثها ، وهذا ما حصل مع الثقافة الأوربية ، فالحضارة اليونانية قد أحياها المسلمون بترجمتهم كتبها إلى العربية وتطويرها ، والأوربيون استعادوا تراثهم بترجمته من العربية إلى اللغات الأوربية . إن العالم يجب أن يقر أن النبي الأكرم هو أبرز مصلح في تأريخ البشرية ، وأعظم شخصية قيادية لم تتلطخ أيديها بدماء الأبرياء ، ولم يكن شغله تصدير العنف إلى القارات والمحيطات ، ولم يدعُ إلى الجهل والتخلف والتمسك بالعادات البدائية ، ولم يحتكر الفكر ، ولا حاول أن يستأصل الآخر الذي يخالفه وإنما قال " وإني وإياكم لعلى هدى أو في ضلالٍ مبين " بل حاول أن يجد ما استطاع إلى ذلك من سبيل المشتركات التي تجمعه مع الآخر وهو ما تشير إليه الآية القرآنية : (( قل يا أيها الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به أحداً )) بل هو العملاق الذي لم يصف الله سبحانه وتعالى أحداً بمثل ما وصفه به وهو قوله تعالى : " وإنك لعلى خلقٍ عظيم " . من بيئة بدوية متخلفة جاهلة إلى أمة مثقفة ذي حضارة أصبحت القطب الآخر الذي يضعه الغرب في مواجهته الحاضرة بعد انتهاء المواجهة مع "القطب الأحمر" بداية العقد التسعيني من القرن المنصرم لهي أعظم المعجزات على مر الدهور والأيام ، لكن يجب على من يحمل فكر محمد أن يستوعب التجربة بدقة وأن لا ينزلق بمزالق قد تهدد الأمة من جديد ، فإنهم عادوا إلى الساحة بقوة بعد أن أزيحوا عن المسرح السياسي ، ولا يجوز للأخوة في بقية التيارات السياسية العلمانية والليبرالية أن يقفوا حجر عثرة في طريقهم فالساحة مفتوحة للكل ومن يثبت جدارة أطروحته سينال ثقة الجماهير .
علي محمد البهادلي
https://telegram.me/buratha