علي محمد البهادلي
بعد أن ألقت القوات الأمريكية المحتلة على قيادات النظام الفاشي السابق ورموزه الكارتونية ، انبرى القضاء العراقي لمحاكمة هذه الزمرة العفنة بصورة علنية يندر مثيلها في أعرق الديمقراطيات في العالم ، لينالوا جزاءهم العادل ولسان حال القضاء العراقي : (( وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون )) ، بيد أن الإجراءات التنفيذية رافقها الكثير من اللغط ، خصوصاً تنفيذ عمليات الإعدام بحق المدانين ؛ لأنهم ـ أي المدانين ـ موجودون في عهدة القوات الأمريكية ، وهذا ما جعلهم ورقة ضغط بأيدي هذه القوات تجاه الحكومة العراقية ، مقابل التنازل في ملفات أخرى تصب في مصلحة هذه القوات وأجندتها ، والأطراف العراقية من جانبها لم تدخر جهداً في تسييس هذه القضية ، فمن مطالب بتخفيف الحكم إلى آخر يطالب بالإفراج عنهم دعماً للمصالحة الوطنية مستخفاً بمشاعر الملايين من أبناء هذا الشعب المنكوب الذين ذاقوا أشد أنواع البلاء أبان حكم هؤلاء الدمويين ، وكأن هؤلاء يمثلون شريحة معتداً بها في المجتمع العراقي ، والحقيقة أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم ، ومن يريد أن يحسبهم على جهة معينة أو مذهب معين ، فهو يسيء لتلك الجهة والمذهب ، وحتى لو افترضا جدلاً أنهم يمثلون طيفاً واسعاً من الشعب فالمصالحة معهم غير واردة ،، إنما المصالحة مع من يؤمن بالآخر وبحقه في العيش حراً كريماً ، لا مع المتجبرين سفاكي الدماء .
أما الأطراف المؤيدة لعمليات الإدانة وتنفيذ أحكام الإعدام ، فهي أيضاً لم تترفع عن تسييس هذا الأمر ، والإفادة منه في الدعاية الانتخابية ابان انتخابات مجالس المحافظات ، وكلنا شاهدنا الدعايات الانتخابية التي وظفت عملية توقيع رئيس الوزراء على إعدام صدام ، فعلى الرغم من كون الإمضاء على إعدام الطاغية " المتفرعن " صدام يمثل انتصاراً لإرادة الجماهير والمظلومين على الطغاة ، إلا أن استغلالها سياسياً من قبل البعض هو أمر في غير محله ؛ لأن الإمضاء هو واجب وطني يلزم كل من يعنيه الأمر ، ولا يشكل عملاً بطولياً ، ولا إجراءً خارقاً للعادة ، إلا أن الإحجام عن الإمضاء كان بمثابة المجاملة على حساب دماء الملايين من أبناء الوطن الجريح ونقطة ضعف تسجل على من أحجم .
لا ندري لماذا تسكت القوى السياسية عن تأخر تسليم من أدانهم القضاء العراقي إلى العراقيين من أجل تنفيذ الحكم ؟ ولماذا لم يطالبوا بقوة بتنفيذ تلك الأحكام ، لا سيما أن بعض المتهمين وصلت حالات الإدانة ضدهم أربع أحكام بالإعدام ، وأخيراً لماذا يسلم المدانون في هذا الوقت بالتحديد ، هل له ارتباط بقرب موعد الانتخابات البرلمانية ؟! على كل حال أن الطاغية قد أُعدِم هو ومجموعة من جلاوزته وكان آخرهم المجرم علي " كيمياوي " ونحن بانتظار إجراء حكم العدالة على بقية المجرمين المحتجزين وملاحقة الهاربين خارج العراق ومن ثم محاكمتهم .
أما ما يريده الشعب في هذه المرحلة الحساسة هو محاسبة كل من أجرم بحقه حتى الذين تسنموا المناصب بعد التغيير السياسي الذي شهده البلد؛ لأن محاكمة صدام وجلاوزته هي ليست محاكمة بين خصمين يريد أحدهما أن يثأر من الآخر ، وإنما هي عملية إقامة حكم العدالة والقانون ، وبما أن هناك من السياسيين الذين وصلوا إلى قبة البرلمان من هم متهمون بقضايا إرهاب وفساد إداري ومالي ، فيجب على القضاء العراقي أن يأخذ دوره في تحقيق العدالة والانتصاف للمظلومين من الظالمين مهما كانوا ، ولأي جريمة ارتكبوها ، وسواءٌ لدى الشعب العراقي من أجرم بحقه قبل التغيير أم بعده ، فمثلاً عمليات الفساد الإداري والمالي هي جريمة بحق الشعب والمال العام يجب محاسبة من يرتكبها ، لأنها تسببت بصورة مباشرة وغير مباشرة في إرباك العملية السياسية والوضع الأمني وعملية التنمية ، وكان لها دور سلبي في تردي الخدمات بالخصوص في الأمور التي تهم المواطن في حياته اليومية كالكهرباء ومفردات البطاقة التموينية وتوفير السكن ...، والوقت مناسب جداً لمثل هذه المحاسبة ؛ لأن البرلمان انتهت دورته ، والنواب الآن بلا حصانة و القوى السياسية تخشى الآن من الدفاع عن الفاسدين مخافة أن يشكل ذلك دعاية انتخابية مضادة ، وهو ما يسهل عمليات المساءلة ، وليس الأمر مقصوراً على النواب فقط بل يجب أن نحاسب المسؤولين في السلطة التنفيذية على كل إخفاق أو عملية فساد ، ، وسوف تمثل هذه العمليات إذا ما جرت نقلة نوعية في عمل الجهات الرقابية والقضاء العراقي ، وتسجل لمصلحة العملية السياسية ، ويطمئن المواطن أن كل مخالفة للقانون لن تذهب دون عقاب ، وحينذاك سنقول إننا في عراق العدل والقانون ، وسنقول للسياسيين الفاسدين الذين تولوا مناصب في الدولة العراقية بعد 2003 : ثم أورثناكم الأرض من بعدهم لننظر ماذا تصنعون ، لكنكم ـ يا للأسف ـ اقتفيتم أثر المجرمين الصدامين ، فذوقوا وبال عملكم هذا ، ولسان حالنا يقول : (( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين )) لكن من سنورثهم المناصب العليا في الدولة العراقية في المرحلة المقبلة سيكونون ـ إن شاء الله ـ أصلح الناس وأنزههم ، فالعاقبة للمتقين !
https://telegram.me/buratha