المقالات

الكلمات تنتصر على سياط الجلادين

928 23:41:00 2010-02-06

علي محمد البهادلي

الحقيقة التي ينبغي على كل البشرية أن تعيها أن المبادئ والقيم أشياء سامية ومقدسة ، لا يجوز لأي أحد أن يتعداها ، وإذا ما أراد أحدٌُ أن ينتهكها ويستهين بها ، فمن أقدس الواجبات حينئذٍ أن يتصدى المجتمع لإيقاف مثل هذه التجاوزات الشنيعة ، والمسؤولية لن ترفع عن الأفراد إذا ما تقاعس المجتمع عن مهمته الرسالية تلك ؛ لأنه ـ أي المجتمع ـ قد يمر بمرحلة سكون وتدجين فكري يسلبه القدرة على إدراك ما يحصل في الساحة الاجتماعية أو يسلبه روح المقاومة للمفاهيم المنحرفة على الرغم من أنه يدرك ما يجري من محاولة لتمييع رسالة أو قيمة ما ، وهذا يلزم الواعين " الأفراد " أن يحاولوا ـ ما استطاعوا ـ توعية الأمة ولفت نظرها للمخاطر التي تتهدد مصيرها ، وقد يكون هذا المجتمع أو ذلك مستسلماً لمصيره البائس ووضعه المزري ، ويمكن أن نطلق عليه مجتمعاً " ميتاً " لا يمكن بعثه إلا بصعقة قوية تهز هزاً ، وهو ما يتطلب أحياناً أن يعرِّض المرء نفسه إلى عملية استشهادية تؤدي في النهاية بعث ذلك المجتمع من نومته تلك ، وهذا ما فعله الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء .لا يتصور أحدٌ أن استشهاد القائد وغيابه عن الساحة الاجتماعية يبرئ ذمة الآخرين في عدم تصديهم للمسؤولية ، ولا يخطر على بال أحد أن المسؤولية سترفع عن بقية أفراد المجتمع ـ أي النساء ـ إذا ما قام الطغاة بقتل الرجال ، بل المسؤولية ستزداد وتكون كبيرة جداً ، وقد تعرض النساء إلى متاعب جمة لا تستطيع حملها إلا اللواتي ولدن في بيئة مكنتهن من تحصيل معرفي ومررن بعدة ابتلاءات صنعت منهن جبالاً شامخة في وجه حوادث الزمان ونوائبه .عندما استشهد الحسين (ع) سُبيَت نساؤه ، ومررن بكثير من الأماكن والأمصار بدءً بالكوفة وانتهاءاً بالشام معقل " الخليفة " يزيد ، وروى لنا المؤرخون بعض ما جرى على السبايا ، وما قمن به تجاه المواقف التي واجهتهن ، لكن أبرز المواقف التي يذكرها التأريخ هي المواقف التي كانت ساحتها الكوفة حيث مجلس عبيد الله بن زياد ، والشام حيث مجلس الخليفة " يزيد بن معاوية "دخلت السبايا الكوفة ، وكان هناك مظاهر الزهو بادية على الجيش وضجيج الأصوات والطبل تدوى ، فدخلوا على ابن زياد ، ولم يكن متوقعاً ـ حسب موازينهم ـ أن تنبري زينب بنت علي لإلقاء خطاب ؛ بسبب الوضع الاجتماعي الذي كان يحيط بالمرأة في البيئة العربية ، و السبب الآخر هو عظم المصيبة التي شاهدتها زينب (ع) إذ قُتِل أخوانها وعلى رأسهم الحسين الشهيد وأبناؤها ، وأبناء عمومتها .... بيد أنها تجاوزت كل التوقعات البيئية والنفسية ، وتسيدت الموقف ؛ لتدافع عن المبادئ التي أخذ ينتهكها خلفاء بني أمية وولاتهم على الأمصار ، وتعنف المجتمع الكوفي الساكت الراضخ لإرادة الطغاة ، فمما قالته في خطبتها معنفة به الكوفيين : ((الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر ، أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة ، أنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ، والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو قصة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون )) فهذه أول رسالة تقدمها بنت علي ، أرادت من خلالها تبصيره بواقعه السيئ وما يتصف به أفراده من صفات ذميمة كان الواجب عليهم أن يقلعوا عنها لا سيما أنهم حديثو عهد بالرسالة الإسلامية ، ولم يمضِ على وفاة أبيها بينهم أكثر من عشرين عاماً ، ونقلت بعض كتب التأريخ خطبة أخرى ، فعندما دخلت زينب مع موكب السبايا مجلس ابن زياد كانت متنكرة ، فسأل عنها فقيل له إنها زينب ابنة علي ، فقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ، فلم تدع السيدة زينب المجال له ليدلي بما في جعبته من أضاليل ونعوت غير لائقة يريد بها أن يلقيها على المجتمع الكوفي الراضخ ، ولسان حاله " لا أريكم إلا ما أرى " فصعقته بكلمات كان وقعها أشد من وقع الحسام الصارم ، ومن المؤكد أنه اضطرب واختل توازنه عندما سمعها لا سيما أنه يعتلي أكبر منصب في الكوفة والبصرة، قالت له : (( إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق وهو غيرنا )) وهو تعريض واضح به ، فقال لها (( كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك ؟ )) فأجابته بكل عنفوان وكبرياء وصلابة تنعدم عند الرجال في مثل الظروف التي مرت على زينب :(( ما رأيت إلا خيراً هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بيني وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة )) ولا أرى أن هناك من يجرؤ على مخاطبة مسؤول صغير في حكومة من حكومات العالم بهذا المنطق الواعي من جهة والصلب من جهة أخرى ، لكنها أعجوبة الدهر وسليلة الفضل والإباء . إن خطابها كان يهدف إلى إزاحة الغطاء عن وجه الحقيقة التي أُريد لها أن تُطمَس وتستبدل بأكاذيب وافتراءات ، وفي الوقت نفسه إعطاء شحنة قوية للمجتمع تدفعهم نحو انتقاد الحاكم والاعتراض عليه والانتفاضة عليه وتبديد مشاعر الخوف والروح الانهزامية .الموقف الآخر كان في الشام ، وكان شديد الوطأة على قلوب أهل البيت ، إذ إن مظاهر الفرح والابتهاج كانت بادية بشكل كبير جداً ، وكانت الدعاية المضادة لهم " انهم خوارج " فدخلت السبايا في مجلس يزيد ، وأخذ يردد شعر عبد بن الزبعرى : ليت أشياخي ببدر شهدوا .... فصدحت حنجرة السيدة زينب مرة أخرى لكشف التعتيم عن وجه الحقيقة وفضح الحاكم الطاغي المنتهك للقيم الإنسانية : (( الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله حيث يقول : (( ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآياتنا وكانوا بها يستهزئون )) أظننت يا زيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، وأصبحنا نساق كما تُساق الأسارى ، أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك فرحاً وتنفض مذوريك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : ((ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين )) نعم ، وقد كان خطابك هذا أكبر إهانة لطاغية لم يشهد التأريخ قط مثل وقفتك تلك في مواجهته ، أما كلامها اللاحق فقد كان بمثابة دورة تثقيفية للمجتمع الشامي وفي الوقت نفسه انتفاضة الإنسان الواعي على الواقع المتردي الذي تعيشه الأمة : (( أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، .... وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والأحن والإضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :لا أهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل...فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردن على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى و الصدور حرى ... فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد ، يوم ينادي المنادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين .هذه الكلمات تمثل قمة الوعي الذي يجب أن يتحلى به الإنسان عندما يواجه ظروفاً تتسم بسيادة التعتيم الإعلامي والتثقيف على السلوكيات غير الصحيحة في أوساط المجتمع وتحكم الطغاة فيه ، وتمثل في الوقت نفسه أبرز مظهر من مظاهر ثقة الإنسان بنفسه وعقيدته وبالمستقبل الذي سيكون حتماً لصالح الحق والمستضعفين بعد افتضاح الأطروحات الظالمة المستبدة . أعتقد اعتقاداً جازماً أن هناك مواقف مرَّ به موكب السبايا ، وكانت هناك كلمات مضيئة سلطت الضوء على ما جرى من تحريف للحقائق والقيم صدرت عن الإمام السجاد والسيدة زينب أو من غيرهما لكن الزمن قد أغفلها كما أغفل الكثير من الحقائق ! ali_albahadli2003@yahoo.com

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك