د. علي المؤمن ||
خلصنا في القسم السابق بأن قراءة الدين دون تخصص علمي ومعرفي، أو من خلال منهج وضعي (لاديني)، ثم الاستناد اليه في تحديد فهم المسائل العقدية أوالفقهية؛ هو عبث بالمعايير العقلية قبل النقلية، وشبيه بفهم غير الطبيب بالحالات المرضية؛ فالطبيب (المختص) الذي يبذل جهده لتشخيص المرض (معرفة الموضوع)، ثم يشخص علاج المرض (حكم الموضوع)، ويصف الدواء وطريقة استخدامه (يشرح مضمون التكليف وشكله)؛ ربما يخطيء في التشخيص والوصف، ولكن لا خيار غير الاتكال على فهمه، لأنه طبيب مختص، وضرره خطئه غير المقصود أقل بكثير من ضرر ما يتسبب به غير الطبيب الذي يقحم نفسه في تشخيص المرض والعلاج. وهذا ما يتفق في مضمونه مع خطورة اعتماد بعض المسلمين عموماً، والجماعات الدينية التكفيرية المسلحة خصوصاً، على مقاربات وفتاوى غير علماء العقيدة والفقهاء، خاصة ما يرتبط بقضايا الدماء والأعراض والأموال.
والقناعة بالحكم الشرعي أو الموقف العقدي الذي يكشف عنه الفقيه وعالم العقيدة؛ يشبه قناعة صاحب المبنى أو المقاول بحجم الإنشاءات التي يصفها المهندس الاختصاص وفق الخارطة التي يضعها؛ فربما لايقتنع صاحب المبنى أو المقاول، بالموقف الذي يكشف عنه المهندس، لكن؛ بما أنهما غير مختصين؛ فإن عليهما الأخذ بما يقوله المختص حصراً. وحين يعمد أصحاب الأعمال أو المقاولين مجادلة المهندس وعدم الإذعان للمواصفات التي يضعها المهندس؛ فإن النتيجة ستكون انهيار المبنى.
لقد بات العالم يدعو الى مزيد التخصص بمرور الأيام، كلما ازدادت وتيرة الإكتشافات العلمية سرعة، وإلى احترام منهج التخصص الدقيق والتخصص الأدق، فلا يتدخل المتخصص في شؤون تخصص آخر. فجراح الدماغ ـ مثلاً ـ هو صاحب الرأي الأول والأخير في الفحص والتشخيص والعلاج في أمراض الدماغ. بل أن الطبيب الاختصاص في جراحة الجملة العصبية، لا يعطي رأياً في مشاكل الدماغ، فكيف بمهندس البناء الذي يريد أن يكون له رأي في جراحة الدماغ ؟.
بينما نرى الصحافي والسياسي والمهندس والعامل والفلاح والضابط والشاعر والحقوقي والفيزياوي؛ لايترددون في تقديم فهم شخصي للدين ومعارفه وأحكام الشريعة، ويقول هذا رأيي، وهذا ما أعتقده.!!، بل أن بعض هؤلاء يحملون ايديولوجية تتعارض مع الدين، كأن يكون صاحب الرأي الإجتهادي في الدين شيوعياً أو عنصرياً أو علمانياً، ولكنه يمتلك الجرأة ليفتي في الشأن الديني التخصصي.
وحتى المسلم المتدين غير المتخصص؛ فإنه لايمتلك القدرة على تقديم فهم شخصي في الموضوعات الدينية التخصصية، طالما أنه غير متخصص، سواء كانت الموضوعات عقدية أو فقهية؛ فبعض المتدينين يجتهد ويخرج بفتوى ـ مثلاً ـ تنفي وجود نظرية اقتصادية أو سياسية في الإسلام، وآخر يعتقد أن أحكام الإرث لا تتوافق مع العصر، وثالث يبدو له أن هذا الحديث النبوي كذب، وبعضهم يسخر من مبدأ التقليد في أحكام الفقه، في حين أن القراءة الدينية التخصصية بحاجة الى متخصص في جملة من العلوم، بدءاً بعلوم القرآن وعلوم الحديث والرجال وعلوم اللغة العربية و الكلام، وانتهاءً بعلمي الفقه وأصوله.
ألواح طينية، القراءة الدينية، د. علي المؤمن
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha