رياض البغدادي ||
بسم الله الرحمن الرحيم
" قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ(66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ(68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ(71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) " سورة المؤمنون
لمّا ذكر الله تعالى في الآيات ( 64-65 ) من سورة (المؤمنون)، أنه سوف لا ينصر الكفار الذين من عذابه يجأرون، بيَّن تعالى علة ذلك، وهي أنهم إذا سمعوا آيات الله تتلى، أتوا بثلاثة أمور:
الأول . أنهم على أعقابهم ينكصون " عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ " أي عن الحق يَبعدون، فالناكص هو الراجع بعيداً .
الثاني . عقْدهم مجالس السمر، للنيل من القرآن الكريم والطعن به .
الثالث . أنهم " مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ " والهاء في ( به ) فيها أقوال :
1 . به عائدة الى البيت العتيق، لأنهم كانوا يقولون أنهم أهل الحرم العتيق، فلا يمسنا العذاب .
2 . أي إنهم مستكبرين بذلك التراجع على الأعقاب .
3 . ان الهاء تتعلق بـ (سامراً ) لإجتماعهم وسمرهم، الذي يدور حول تدارس القرآن، وذكر سحرهِ وأنه شِعر، ولا تخلو مجالس سمرهم عن سب النبي ( ص ) والنيل من دعوته، وهذا هو الهجر " سَامِرًا تَهْجُرُونَ " .
إن أقدامهم لهذه الأفعال عائد الى أربعة امور بيَّنها الله تعالى وهي :
الأمر الأول : إنهم لم يتدبروا القرآن رغم أنهم عرب، والقرآن نزل بلغتهم، وهو قوله تعالى " أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ... " .
الأمر الثاني : اعتقادهم أن مجيء الرسل على خلافِ العادة " أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ " .
الأمر الثالث : أنهم أنكروا معرفتهم لأمانة النبي وصدقه وحسن سيرته، التي يعرفونه بها قبل البعثة عناداً منهم " .. لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ..".
الأمر الرابع : إنهم ظنوا فيه الجنون، وهذا ما لايعقله إنسان في رجل قد أتى بكل تلك المعجزات والآيات " ..يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ.. ".
وهذا الأمر الرابع فيه قولان :
1 . إن اعتقادهم بجنونه عائد الى طلبه بانقيادهم له، وهو ضربٌ من الجنون بحسب اعتقادهم، لأنه أمر لا يمكن حدوثه.
2 . انهم قالوا بجنونه لمنع العوام من الانقياد له .
وبعد ان بين تعالى فساد اقوالهم، قال تعالى " بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ " ذلك لكراهتهم زوال مناصبهم ومواقعهم التي يتمتعون بها، واما قوله تعالى " أَكْثَرُهُمْ " ذلك لأن منهم من لم يكره الحق، لكن عدم إيمانه عائد الى أنفته وعصبيته ولائمة قومه .
ثم بيّن تعالى ان العقل يستلزم من الإنسان أن لا يرهن الحق بالهوى، بل لابد من تحكيم الحق واتباعه، وهذا قوله تعالى " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ " وفي تفسيرها وجوه:
الأول . إن القوم كانوا يرون لا مانع من اتخاذ الآلهة مع الله .
الثاني . إن منشأ المفسدة، اتباعهم لأهوائهم وتكذيب النبي (ص).
الثالث . إن أهواءهم كانت في تناقض ولو اتبع الحق أهواءهم، لأدى ذلك الى الفساد والتدافع .
وأما قوله تعالى " بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ " قيل إنه القرآن والأدلة، وقيل شرفهم وفخرهم بالنبي، وقيل هو الذكر الذي كانوا يتمنونه " لو أن عندنا ذكراً من الاولين .." ثم بين تعالى أن النبي لم يسألهم خرجاً ولا خراجاً، يكون سبباً لنفرتهم عنه " أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " والله تعالى هو المتكفل برزق الناس، وقد نبه الجبائي الى ان قوله "وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " بجواز ان يرزق العباد بعضهم بعضاً .
والله العالم
https://telegram.me/buratha