محمد عبد الجبار الشبوط ||
تتعالى الاصوات المطالبة بالاصلاح والتغيير. وللناس الحق في ذلك. ولا داعي لسرد الاسباب الداعية لذلك. ولكن التغيير يتطلب، من بين امور اخرى كثيرة لن اذكرها الان، وعي المشكلة اولا، ووعي الحل ثانيا. والوعي يعني المعرفة الصحيحة بالمشكلة، والمعرفة الصحيحة بالحل. الوعي بالمشكلة يعني تشخيص المشكلة بشكل دقيق، كما يفعل الطبيب حين يشخص المرض. وعلى اساس التشخيص الدقيق للمشكلة يتم وضع الحل او تشخيص الدواء.
ولما كانت كل المشكلات التي نعاني منها في مختلف مجالات الحياة هي عبارة عن ظواهر اجتماعية، وجب تحليل المكونات الاولى للمجتمع والانطلاق منها في تشخيص المشكلة وتحليلها ثم تحديد الحل.
المجتمع في بنيته الاولى مؤلف من افراد ومنظومة علاقات تربط الافراد فيما بينهم من جهة، وتربط الافراد بالطبيعة من جهة ثانية. واستنادا على هذه البنية الاولية يتالف تاليا المركب الحضاري للمجتمع والدولة. والمركب الحضاري هو منظومة القيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري الخمسة، وهي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. وحين نحلل اية مشكلة اجتماعية او سياسية او أقتصادية الخ سوف نجد انها تَمُتُّ بصلة ونسب الى المركب الحضاري. المشكلة هي تعبير كاشف عن وجود خلل ما في المركب الحضاري. المشكلة هي المظهر الخارجي او الافراز الجانبي لهذا الخلل في المركب الحضاري. وظيفة الوعي ان يكتشف الرابط بين المظهر الخارجي للمشكلة وبين الخلل الحاصل في المركب الحضاري.
ومن الضروري ان نعي ان الاختلالات الحاصلة في المركب الحضاري ليست وليدة اليوم، وان كان بعضها وليد اليوم. فقد تعرض المركب الحضاري في المجتمع العراقي، ربما منذ نهايات العصر العباسي الاول، الى جملة اختلالات تفاقمت وتراكمت بمرور الزمن وكان من نتائجها، على سبيل المثال، سقوط بغداد تحت الاحتلال المغولي عام ١٢٥٨، وسقوط المجتمع في مستنقعات التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والعلمي، وتسلط مستبدين متخلفين على الدولة امثال صدام حسين، وصولا الى ما وصلت اليه الدولة العراقية الان من فشل وتفاهة وعدم كفاءة. ولذا نحتاج ان نعي انه مثلما حصلت الاختلالات في المركب الحضاري عبر زمن طويل فان اصلاحها ربما يتطلب زمنا طويلا ايضا.
وبامكان القاريء تطبيق هذه الفكرة على اي مشكلة من مشكلات المجتمع العراقي، مثل مشكلات الاستبداد وانخفاض انتاجية المجتمع والبطالة والخرافة والجهل. وسوف يجد ان هذه المشكلات مرتبطة عضويا باختلالات في المركب الحضاري ادت الى ظهورها، مثل الاختلال في موقف المجتمع من مسالة الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وامامة او امارة المتغلب، او موقف المجتمع من العمل، وخاصة العمل في الارض وزراعتها، والعمل الجماعي، والاهتمام بالعلم والمعرفة، والعقلانية، والفهم الحضاري للدين، وخاصة القيم الحضارية العليا التي اكد عليها القران الكريم الذي يتلى كل يوم في مجالس المسلمين، وهكذا.
هذا التشخيص السليم للمشكلة، اي وعي المشكلة، سيكون الاساس السليم لتشخيص الحل. اما انعدام هذا الوعي، او بناء الحل خارجه، فسوف لن يساعد في حل المشكلة ولعله يُسهم في مفاقمتها و اعاقة حلها وهدر الجهود المبذولة في هذا السياق. وهذا ما تعرضت له الجهود الاصلاحية التي شهدها المجتمع العراقي بما في ذلك محاولات علاء الدين عطا ملك الجويني (١٢٢٦-١٢٨٣) ومحاولات الوالي العثماني مدحت باشا (١٨٢٢-١٨٨٤)، وظهور الاحزاب العقائدية مثل الحزب الشيوعي وحزب الدعوة، وصولا الى التظاهرات الاحتجاجية في شهر تشرين الاول من عام ٢٠١٩. كل هذه الجهود والمحاولات تمت خارج الوعي الدقيق بطبيعة المشكلة وجوهرها، اي وعي الخلل في المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة. لذا جاءت الحلول كمن يدور حولها دون ان ينفذ الى صميمها وجوهرها.