محمد عبد الجبار الشبوط ||
ما بين عامي ١٩٥٨ و٢٠٢١ استطاعت التيارات الايديولوجية او شبه الايديولوجية ان تثبت للناس عدم قدرتها على بناء دولة حضارية حديثة تحقق السعادة للناس في العراق.
ولا يعني هذا ان الفترة التي سبقت السنوات المذكورة حققت المطلوب، الا ان الحديث عنها خارج الصدد الان. اما سبب تحديدي الفترة الزمنية بهذين التاريخين فهو لأن هذه الفترة شهدت صعود ثلاثة تيارات فكرية-سياسية اثرت في المشهد السياسي وهي متكئة على دعاوى ايديولوجية او شبه ايديولوجية. وهذه التيارات هي: الشيوعية ، والعروبية، والاسلامية.
بين عامي ١٩٨٥- ١٩٦٣ تصدر المشهد الحزبُ الشيوعي وعقيدته الماركسية اللينينية ونموذجه المعلن هو الاتحاد السوفياتي.
بين عامي ١٩٦٣-٢٠٠٣ حكم التيار القومي العراق بفرعيه الناصري والبعثي، والثاني منهما حكم لفترة طويلة.
بين عامي ٢٠٠٣-٢٠٢٠ شاركت الاحزاب الاسلامية في الحكم بحصة اكبر بكثير من غيرها، رغم ان الحكومات كانت توافقية. وبعد عام ٢٠٢٠ عاد العلمانيون الى الحكم بدون صبغة ايديولوجية محددة.
في التحليل الوصفي هذه الفترة الطويلة نسبيا سوف نلاحظ جملة امور:
الامر الاول: ان التيارات الفكرية الثلاثة (الماركسي، البعثي، الاسلامي) لم تقدم نموذجا لبناء الدولة يمكن ان يحقق اجماعا وطنيا حوله، كما هو الحال في دول اخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة واليابان والهند وماليزيا وغيرها. فبقي المجتمع منقسما عموديا بين هذه التيارات، وبشكل ازداد حدة في الاونة الاخيرة بين التيار الاسلامي والتيار العلماني.
الامر الثاني، ان العلاقة بين هذه التيارات كانت على الدوام صراعية ودموية، وليست تنافسية سلمية، لسبب ظاهري هو عدم تطبيق الديمقراطية، ولسبب خفي هو الطبيعية البدوية للمجتمع العراقي.
الامر الثالث، ان هذا الوضع البائس لم ينتج حتى الان وعيا سياسيا مجتمعيا يتجاوز الحالة الصراعية الدموية بين التيارات الفكرية-السياسية المذكورة، وايضا يعود سبب ذلك الى الطبيعية البدوية الغالبة للمجتمع العراقي. ولم تفلح الطروحات الفكرية بشقيها الاسلامي والعلماني في الارتقاء بالمجتمع العراقي الى ما فوق هذه الصراعات العنيفة والحادة. وبالتالي فليس من المبالغة القول بان الوضع الراهن هو مسؤولية ثلاثة اطراف هي: المجتمع، واحزابه السياسية، وحكوماته التي اقامتها هذه الاحزاب.
هذا على مستوى التوصيف العام، فماذا على مستوى الحل والعلاج؟
يتمثل الفباء العلاج بالخروج من ثنائية العلمانيxالاسلامي، والانفتاح على نمط تفكير او خيار ثالث سوف اطلق عليه اسم "الحضاري الحديث"، وهو خيار يجمع كما يظهر من اسمه بين منظومة قيمية تحف بعناصر المركب الحضاري الخمسة، اي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل، وبين الحداثة كما تظهر في عصرنا الراهن بمعالمها الرئيسة العامة مثل الديمقراطية وسيادة القانون والعلم الحديث وغيرها. ويتمثل هذا الخيار الثالث بنموذج الدولة الحضارية الحديثة التي تتمحور حول الانسان، بدءاً من فكرة كونه مستخلفا سيدا في الارض، وانتهاء بتسخير الدولة ومواردها من اجل اسعاده وتحسين نوعية حياته وتقديم الخدمات الضرورية واللازمة لتحقيق هذه السعادة.
هل يستلزم هذا النموذج ان يتخلى الاسلامي عن اسلاميته او العلماني عن علمانيته؟ الجواب لا، لكن على الطرفين ان يتخليا عن النظرة الاحادية للحياة التي تستلزم نفي الاخر، وان يدخلوا في مساحة مشتركة توفرها منظومة القيم الحضارية الحديثة التي ستقوم الدولة على اساسها. وهذه القيم ذات طبيعة انسانية عالمية مشتركة من شأنها ان تخرج المجتمع من ثنائية الاسلامي والعلماني، دون ان تسحقها، لكنها توفر ارضية مشتركة للطرفين ينطلق عملهما منها لتحقيق سعادة الانسان في العراق، وهذا ما دلت عليه التجارب المعاصرة لبناء الدولة الحضارية الحديثة لأكثر من ٢٥ مجتمعا كان حالها اكثر رداءة من المجتمع العراقي.