حسن المياح ||
من نافلة القول وأنها ضرورة في الذكر أن نتطرق الى البلاغة تعريفآ لما لها من تطابق الفكرة للواقع، ونرى كم هو ضروري أن نتقن التطابق كيف يكون، حتى يتحلى نقدنا بالموضوعية وحسن صحة إصدار الحكم .. والبلاغة تعرف على أنها مطابقة الكلام (الفكرة) لمقتضى الحال (الواقع) . وهذا التعريف هو نفس تعريف الحقيقة والنقد، ولكن التطابق يكون على التشكيك كما يعبر عنه الفلاسفة . والتشكيك هو درجات ومراتب يكون عليها الشيء شدة صعود، وإرتخاء نزول ... والبلاغة لا تكتفي بمطابقة الكلام لمقتضى الحال فحسب ؛ وإنما هي كذلك تهتم بمطابقة الكلام (الفكرة) ومستوى عقلية وفهم السامع (وهذا في الخطابة)، ومستوى عقلية وفهم القاريء (وهذا في الكتابة والمخاطبات) ..وعليه فأن البلاغة تؤكد على إنطباق تطابق الكلام ( الفكرة) - الذي هو على التشكيك - لمقتضى الحال (الذي هو الموضوع المستقل في الخارج)، وكذلك لمستوى إدراك وفهم ومعرفة من يوجه اليه، أو يسمع، أو يكتب له الكلام (الفكرة) .. والذي هو الجمهور من الناس سواء كانوا مخاطبين، أو سامعين، أو قارئين ... بمعنى أنه يجب على الإنسان البليغ أن يكون على دراية واعية متقنة، وإحاطة دقيقة بعلم النفس، وأن يتعرف على طبائع من يستمع اليه أو يقرأ له، من أجل أن يطابق بينهم وبين كلامه، كما يطابق بين كلامه وبين الموضوع الذي يتحدث فيه أو عنه، ولذلك تراه يوجز حيث يحسن الإيجاز، ويطيل ويفصل ويسترسل حيث تحسن الإطالة ويحسن التفصيل والإسترسال.
وبطبيعة الحال أن الناقد هو كالحاكم العادل، بما عليه الحاكم العادل من خصائص ومميزات ومؤهلات، وما هو عليه من ظروف داخلية نفسية، وخارجية مؤثرة عليه . وهذه كلها مؤثرات لها فاعلية التأثير والتوجيه على التطابق شدة إنطباق، أو هبوط تماثل ... كما عبرنا عنه بالتشكيك.
وتحدثنا عن الموقف السلبي الذي يكون عليه الناقد في الحلقة الثالثة، ووعدنا التحدث عن الجانب الإيجابي الذي يكون عليه الناقد في نقده بما يتصل بالموضوع الذي هو مادة النقد، وصحة موقفة المتعدد المتنوع في النقد، لما يتناول مواضيع مختلفة لعنوان واحد، أو شخص واحد، مما يربك الذهن المغلق على أنه متناقض في مواقفه النقدية، وأنه يغالط نفسه ويخالفها مواقفآ متعددة ، حينما ينقد المواضيع المختلفة، لا الموضوع الواحد، وذلك لعدم التمييز بين ما هي المواضيع الخاضعة والمراد نقدها ....
النقد الموضوعي هو نقد يعبر عن صرامة موقف الناقد فيما يصدر من حكم نقدي تجاه موضوع محدد معين مخصص . وأنه لا يخالفه بموقف آخر مغاير له وجهة روح نقدية وموقف مخالف لما هو عليه في نقده الأول، لأن هذا الإضطراب والتردد، والتحول والإنقلاب، يدلل على عدم موضوعية الناقد حين يتناول الموضوع ذاته ونفسه مادة نقد، وأنه ليس نقدآ موضوعيآ ؛ وإنما هو مجرد عن إنبعاث وإطلاقات آراء وإجتهادات مزاجية، ومشاعر خلجات نفسية، تتناغم مع الموضوع منفعة ذات، ومصلحة كسب ود الموضوع، لما فيه من براجماتية نفعية تعود لصالح الناقد والموضوع الذي هو مادة النقد سواء كان شيئآ نشاطآ، أو إنسانآ.
وبطبيعة الحال، أن الناقد يتناول موضوعآ محددآ معينآ، ويتبينه ويفحصه، ويدقق فيه ويعيه، ويتعامل مع كل جزيئة من تكوينه حتى لا تفوته فائتة، ويتمكنه رعاية ووعاية، وفهمآ وإدراكآ وإستيعابآ، ثم يعمل على تقييمه الشامل للموضوع، ويصدر حكمه النقدي فيه وعليه . ويجب إن يكون هذا الحكم دقيقآ، واضحآ، صارمآ، ثابتآ، لا تراجع عنه، حتى يقال عنه أنه نقد موضوعي، وعلى التشكيك طبعآ درجة وثوقية وتطابق .... وحتى لو تناول الناقد مواضيع متعددة متنوعة مختلفة في نفس الوقت، فآنه يجب أن يكون له حكم صارم في كل موضوع على حدة وجنب، وإن تباينت مواقفه النقدية في المواضيع التي هي مواد النقد، فإن لكل موضوع، نقدآ خاصآ به..وأكيدآ أن الناقد لما يصدر حكمآ نقديآ على موضوع محدد معين، فإن هذا النقد (الفكرة) يجب أن يتطابق على التشكيك مع الموضوع الذي هو مادة النقد المتناول..ولذلك فأن للناقد رأيآ واحدآ صارمآ ثابتآ لا يتغير للموضوع الواحد الذي يتناوله نقدآ، حتى يكون نقده نقدآ موضوعيآ سليمآ ... والناقد يتغير رأيه النقدي إذا تغير الموضوع، لأن الموضوع هو الأساس والبوصلة المرشدة الدالة التي توجه الناقد . وهنا تكون المغالاطات والمهاترات الكلامية التي يطلقها الناس العوام تعنيفآ وتخذيلآ، ومساسآ وتسقيطآ للناقد لما تختلف آراؤه النقدية حين يصدرها، غير منتبهين الى أن الموضوع إذا إختلف، يختلف معه الموقف النقدي، لأن النقد هو تبع الموضوع، وهو أسيره موضوعآ ومادة نقد، يتوجه معه أينما يتجه ذلك الموضوع ويكون..ولا غبار على الناقد في مواقفه النقدية المتنوعة والمختلفة، لأنها عبارة عن نظرات نقدية فاحصة متعددة بعدد المواضيع التي يتناولها ويتعامل معها؛ وأنها ليست آراءآ نقدية مختلفة ومتضادة، ومتقابلة ومتناقضة، في موضوع واحد معين، ولا هي تعبير عن نشاطات، أو ناس (مسؤولين) متعددة مختلفة (كمواضيع)، وإنما هي موقف نقدي يتناول نشاطآ (موضوعآ واحدآ لا غير) واحدآ معينآ مخصوصآ، أو إنسانآ ما، أو مسؤولآ بعينه، في سلوك نشاط أو تعامل واحد، محدد معين مخصص..وإذا تعددت النشاطات كنشاطات مختلفة، أو نشاطات لشخص مسؤول واحد .فهذه نشاطات متعددة، يجب أن تكون لها مواقفآ نقدية متعددة مختلفة متنوعة، يتناسب كل موقف نقدي (الفكرة) تطابقآ مع النشاط (الموضوع) الذي هو مادة النقد..فتتعدد المواقف النقدية بتعدد المواضيع المراد نقدها نقدآ موضوعيآ..
والآن قد وضح الأمر حصحصة إنبلاج إشراقة كشف حقيقة التي مفادها أن الناقد حين يتلون ويتغير موقفآ نقديآ موضوعيآ، أن هذا التلون، وهذا التغير، هو رسوخ وثبات ولون واحد، وليس تعدد ألوان وتغيرات مواقف نقدية، لأن الموضوع مادة النقد واحد، وتتعدد المواقف النقدية لما تتعدد النشاطات التي هي المواضيع ..لما تقرأ، أو تسمع، أن النشاط كذا، أو المسؤول فلان، أنه جيد مرة، وأنه رديء أخرى، ليس عبثآ أو تناقضآ ؛ وإنما هو جيد في نشاط ما محدد معين ...، وأنه رديء في نشاط ما آخر محدد كذلك ومعين ومخصص ... وعليه فلا هو تناقض ولا هو إختلاف، ولا هو تصادم ولا هو إنقلاب؛ وإنما هو نقد موضوعي لكل نشاط على عزلة وتمييز، وعلى تفرقة وعلى تحديد وتبيين وتوضيح.
https://telegram.me/buratha