حسن المياح ||
قلنا أن في الحقيقة صرامة التطبيق والإنطباق الكامل التام، وعليه فالشيء يكون حقيقة إذا إنطبق كمال الآنطباق، وتمام التطابق، وإن إختلف شيء ما بين الفكرة التي هي في الذهن، والواقع الذي هو الموضوع في الخارج على إستقلال، فلا حقيقة توجد؛؛ وإنما هو خطأ . والصرامة هي أن الشيء إما هو حقيقة أو هو خطأ . وما هذه الصرامة في الحكم إلا التأكيد بعدم السماح للذاتية أن تتدخل وتكون عنصرآ من عناصر الحكم ... وهذا هو الذي أدى بالنقد أن يكون أقل صرامة وحدية من الحقيقة؛ ولكن التطابق والموضوع باقيان هما هما، إذ لا يكون النقد من دون وجود ناقد، ولا يكون النقد من دون موضوع، الذي هو مادة النق .
وميادين النقد متعددة ومختلفة، ولذلك تتفاوت درجة الصرامة في النقد، لأن النقد يعتمد من حيث الشخص الناقد على عقله ودرجه وعيه وفهمه وإطلاعه وثقافته ومعرفته وما الى ذلك من مؤهلات، وكذلك يعتمد على العاطفة بما هو إنسان، له شعور وإحساس، وميل ومزاج، وما لكل هذه العوامل من فاعلية في الحكم، وتأثيرات علي.
والآنسان لا ينفك من خلقته كائنآ عاقلآ له عاطفة تتحكم فيه بدرجات متفاوته شدة وإرتخاءآ، حضورآ وتلاشيآ، وفق الموضوع والظرف الذي هو فيه، لذلك تتفاوت الأحكام النقدية بين ناقد وناقد، بل وحتى عند الناقد الواحد حينما يطغى أو يؤثر عليه مؤثر، فيغير بعض الشيء من بوصلة إتجاهات حكمه وتوجهات نقده، وطبقآ لدرجة تأثير الموضوع عليه من نواح متعددة ... وهذا هو الذي يؤثر على درجة الصرامة في التطابق بين الفكرة التي يخلقها الناقد رأيآ في ذهنه، وينزلها حكمآ نقديآ يقرأ ويسمع ويكتب، والموضوع الذي هو مادة النقد والتطابق ...
فالناقد ترتفع درجة الحقيقة (كمال وتمامية التطابق) في نقده، لما يكون عقله هو الحاكم والفيصل في التقييم والتقدير؛ وتنخفض درجة أحقية نقده لما يكون للعاطفة والميل التفسي فاعلية وتأثير كبيرين ومؤثرين مصدرية في الحكم، وعليه تقل درجة التطابق بين الفكرة والرأي للناقد وبين الحقيقة الوجودية للموضوع بما فيه من مضامين وتوجهات وحقائق.
بهذا ينقسم القول، ويقال عن الناقد أنه ناقد موضوعي، وعن النقد أنه نقد موضوعي سليم، تتوفر فيه درجة خلوص عالية من حيث الحكم والتقييم والتقدير ...متى يكون عقله هو الحاكم ...وأن الناقد مشحون عاطفيآ، ومعبأ ميلآ نفسيآ، ولا قصد موضوعية في نقده، لأنه إنحرف عن خط إستقامة الحكم العقلي الموضوعي الذي تتطابق فيه الفكرة والموضوع درجة تماثل عالية من الكمال والتمام، وأنه أخذ ينحو نحو الذاتية في الحكم لما للعاطفة من فاعلية وتأثير على الحكم النقدي الذي يكونه ويصدره.
والموضوع كذلك له درجة فاعلية وتأثير على الحكم في عملية النقد. وهذا يعتمد على درجة حب وبغض، وميل وعزوف، ورغبة ونحس، وإنسجام وتنافر، وكسب ود وغائلة إنتقام، وإقتراب وخلق عداء، وإرضاء وإستعداء، وما الى ذلك من تقابلات حالات نفسية وشعورية وسلوكية يكون مبعثها الموضوع ذاته، سواء كان شيئآ أو شخصآ، الذي هو مادة النقد.
والحالة النفسية للناقد تؤثر على موضوعية حكمه الصادر، وإذا إختلفت هذه البواعث النفسية التي تتملك الناقد الإنسان، يتأثر حكمه النقدي ويتغير في اللحظة التو، وفي باقي الأزمنة الأخرى..ولذلك يكون هذا الناقد متذبذب الشخصية والرأي والحكم النقدي الذي يصدره تقييمآ للموضوع المنقود.
وهذا الإضطراب النفسي يفقد الشخص الناقد موضوعيته النقدية، ويعرض نفسه للوم والتعنيف لما هو فيه من إزدواج شخصية، وآختلاف رأي، وإضطراب سلوك نفسي يقلب حاله ويؤثر على عقله ومقاييس تقييمه للموضوع الذي هو أمامه، وبين متناول يديه...وهذا أكيدآ يؤثر في صدق وسلامة موضوعية نقده، ويؤثر على درجة التطابق بين الفكرة والموضوع، لذلك هو يبتعد حكمآ نقديآ عن الحقيقة في صرامة تطابقها وإنطباقها..وهذا موقف سلبي للناقد لأنه يثبت هشاشة وضعف وتخاذل وضئالة درجة التطابق بين الفكرة والموضوع، وأنه يؤثر سلبآ على درجة الوثوقية والموضوعية في نقد الناقد، مما يعاب عليه أنه منحاز، وأنه تبع، وأنه ذيل، وأنه بوق، وما الى ذلك من تسميات التوهين، وصفات التحقير والتسقيط التي عرض الناقد نفسه اليها بكل جدارة وقصد، ومن وضع نفسه مواضع التهمة، فلا يلومن إلا نفسه..
وهناك موقف إيجابي آخر للناقد في نقده يختلف عن هذا الموقف السلبي الذي يلام عليه الناقد، عندما سمح لنفسه أن ينحرف عن جادة الموضوعية، ويطلق العنان لهوى نفسه، وتحقيق مآرب رغبتها وشوقها، وما ترنو اليه من مكاسب ومنافع وتحقيق أمنيات ... والموقف الآخر للناقد الذي سنشرحه في الحلقة الرابعة أنه موقف إيجابي من حيث موضوعية الناقد والنقد، ودرجة إرتفاع وصعود التطابق بين الفكرة عند الناقد والموضوع الذي هو مادة النقد، وعلى أساسه يقوم التقييم والتقدير والنقد...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
https://telegram.me/buratha