محمد عبد الجبار الشبوط ||
المرحلة الثانية، من الهجرة الى صلح الحديبية سنة ٦ هجرية:
في المرحلة الثانية من بناء المجتمع على اساس القيم القرانية الجديدة هاجر الرسول محمد (ص) الى يثرب بعد ١٣ عاما من الدعوة قي مكة، اسفرت عن تحول عدد قليل من الاشخاص الى الاسلام.
وكان عدد من اهالي يثرب قد اسلموا قبل ذلك، وبايعوا الرسول فيما يعرف بكتب التاريخ ببيعة العقبة الاولى، وفي السنة التالية بيعة العقبة الثانية. وارسل الرسول صاحبه مصعب بن عمير ليعلم الناس هناك القران. وفشا الاسلام في يثرب قبل وصول الرسول اليها.
وفي يثرب التي اصبح اسمها المدينة، توفرت اركان الدولة الاساسية، وهي الارض والناس والحكم. وبقي على الرسول وقد اصبح نبيا حاكما ان يواصل عمله الاساسي الذي اشار اليه في الحديث المشهور الصحيح:"إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ". ومكارم الاخلاق هي منظومة القيم العليا التي تقوم على اساسها الدولة وتكون الاطار العام لسلوك الافراد والمجتمع والدولة، ولاشتغال عناصر المركب الحضاري الخمسة، اي الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.
وفي المدينة وجد الرسول مجتمعا مختلطا تعدديا. فهناك المسلمون والمؤمنون والمنافقون والفاسقون، وهناك اليهود، اضافة الى المشركين. هذا فضلا عن التنوع القبلي وفي مقدمته الاوس والخزرج.
وكان على الرسول ان يفعّل منظومة القيم في هذا المجتمع التعددي و تنزيل مفردات هذه المنظومة من المستوى النظري (المكي، الفردي) الى المستوى العملي وعلى نطاق واسع (مجتمع ودولة). وفي مقدمة هذه القيم التي يحتاج اليها المجتمع والدولة: الاستخلاف، العقد الاجتماعي (الدستور)، الطاعة، المواطنة، التعايش، تعظيم الموارد المالية، اضافة الى التصدي للعدو الخارجي ممثلا في قريش المشركة وحلفائها من القبائل، وفي مرحلة لاحقة الدولة البيزنطية ذات الحدود المشتركة مع دولة الرسول. ولم تكن هذه المهمة سهلة ابدا.
وعلى رأس منظومة القيم تقف قيمة الاستخلاف، التي تمثل المركز القانوني للانسان في الارض، وقد ذكرها القران في اوائل سورة البقرة التي بدأ نزولها في المدينة. مع ملاحظة ان طريقة تطبيق مبدأ الاستخلاف في عصر النبي (والمعصوم عند الشيعة)، تختلف عن طريقة تطبيقها في عصر غيبة النبي او المعصوم. وكان على النبي ان يمارس سلطته النبوية دون التسبب في نسيان الامة لهذا المبدأ الاساسي. وقد اتضح ذلك في عدد كبير من الحوادث مثل بيعتي العقبة، ومعركة بدر، ومعركة احد الخ.
فالنبي هو "الخليفة الحقيقي" في حال وجوده، كما بين الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنه يمارس خلافته في اطار القواعد الدستورية التالية:
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (ال عمران 159)
"وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" ( الشورى 38)
"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا". ( الاحزاب
36)
لكن لا ينبغي قياس سلطات وصلاحيات واختصاصات الحاكم غير المعصوم على ما يماثلها بالنسبة للنبي. فالنبي يجمع في ذاته موقعين هما: موقع الشهادة وموقع الخلافة، وهذان الموقعان لا يجتمعان في انسان واحد غير معصوم.
ففي حالة غياب المعصوم، تؤول السلطة والسيادة كلها الى الامة، او الجماعة البشرية، بوصفها المستخلفة في الارض من قبل الله، وتمارسها عن طريق الشورى، او الديمقراطية.
يتبع