نعمه العبادي ||
"من النادر جداً أن لا يكون لعراقي قصة حب في حياته، كبرت أو صغرت، إلا أن الأندر منه، أن تستلم النسخة الأصلية لتلك القصة بقلم أبطالها، فقد ظلت قصصهم رسالة عشق في جيب راهب
أنا السومري
وظف علم الأجتماع بتقسيماته المختلفة أكثر من دالة إجتماعية لدراسة المجتمعات، والبحث في أعماقها، والمقارنة بينها إلا أنه (وبحسب اطلاعي)، لم يوظف (العشق) كممارسة وجدانية أزلية، تتمظهر في أشكال مختلفة من التعبير بحسب الخصوصيات النفسية والاجتماعية، وأخص بمفردة العشق في هذا النص (العلاقة القلبية والروحية والجسدية بين رجل وأمرأة، تترجم إلى مظاهر مختلفة من الميل والتعلق، سواء كان هذا العشق متبادل من الطرفين أو من طرف واحد، وسواء كان معلوم ومصرح به بينهما أو مجرد أحساس محمول دون التصريح به)، لإتخاذه دالة ومحدداً لمعرفة هوية وخصوصية مجتمع ما.
على الرغم من طابع السرية الذي لازم سرديات العشق في كل الثقافات والحضارات إلا أن خصوصية العشق العراقي ظلت متفردة في سرديتها الخفية، فمع أن الأفواه لا تنطق بهذا العشق، ولا تدور حكاياه في المجالس والمحافل إلا أن كل شيء من المحيط يوحي لك به، من أطراف سعف النخيل وسنابل الزرع إلى قاع الانهار والطين الحري، وحتى عيون السمك العراقي يبوح ببعض من هذا، فهذه أرض عشق بإمتياز، أقترنت أبرز آلهتها القديمة به، وأعني (عشتار آلهة الحب)، وظل ملازماً لها حتى تعنونت به.
طوق الدين والعرف الراسخان حد التجذر في البنية العراقية الاصيلة بتابواتهما الشديدة، أفواه وأروح عشاق العراق، فكانت قصصهم، إنيناً تحت الضلوع، وحنيناً شجياً يناح في الفلوات والأقبية المظلمة، ودموعاً حارة مشعولة بألم الوجد تتختل في المناسبات المباحة لتخرج خلسة في عناوين غير رسمية، وهكذا كان النواح على الزمن الضائع كناية عن قصة عشق ذابلة، ولطالما كانت الترنيمة لطفل من زيجة رسمتها الاقدار القاهرة رسالة صامتة ينثها شجن الفراق ولوعة الاشتياق.
أنتقلت هذا السمة بكل ما فيها من خصوصية الى الناطق الرسمي بإسم هذا العشق، وهو (الشعر والشعبي منه على وجه الخصوص)، فجاء محملاً بشكاية نازفة بالألم دون أن يبوح بمصدر هذا الألم بشكل واضح، وكان الشعر العراقي ينوح على ألف ألف حبيب وحبيبة دون أن يقترب إلى أسم أو رسم، فلولا أن أعلن النواب عن هوية جلسيته المحزونة بحكايات لاحقة خلال رحلة قطاره من بغداد إلى البصرة، لظل قطار الليل وحمد وأم شامات طلاسم مبهمة في سردية العشق العراقي، كما بقيت شهريار وشهرزاد وليالهما الألف محل جدل ونقاش دون أن يجزم أحد بالمكان والزمان الذي قيلت فيه، عدا القطع بعراقيتها وإلتصاقها بهوية العشق الرافدينية، وهكذا الحال في تراث ال (الابوذية) و (الدارمي)، الذين سجلا في كل من فصولهما، نشيج حبيبة تخشى ان تقول حكايتها لأي أحد حتى ولو لإختها الصغرى، أو حكاية جرح لقصة قطعت أوصالها سكاكين الاعراف، أو لعب الزمان بأهلها في حرب أو حصار أو تهجير أو نازلة أخرى فغدوا مجرد ذكريات، أو عشق أحتبس في ضلوع لم يرق حتى إلى البوح لصاحبه، وظل جذوة أنين في الضلوع يشعلها الحنين والتفقد.
لم يقف الامر عند الشعر، بل سرى الى الغناء، الذي كان هو الآخر تعبيراً اكثر وضوحاً عن ذاك العشق، ومع أنه غناء، إلا أنه ظل متجلبباً بثوب الخجل والخوف، فكان صراخاً لغريق مجهول في نهر ليس له مكان، وحتى في البوح لأمانيه لم يستطع ان يسمي حبيبته ولا لحظته ولا اي مشخص يدل عليه، فكانت رومانسية الستينات والسبعينات التي جسدها الجيل المميز من مغني العراق مختلفة تماماً عن رومانسية عبد الحليم وسعاد حسني ونجاة وبليغ ووردة، وعن كل الرومانسيات الاخرى، لأنها تتحرك في فضاء مختلف للتعبير عن الحب واشكاله، فهي مسكونة بوجع ممنوع تحوم فيه حول الرسوم بلغة رمز يقطر من مساماتها وجع الحنين.
في معرض دردشة مع احد الاصدقاء استذكر فيها بعض النصوص الغنائية العراقية، قلت له، إن أغاني ( على الله ويا بشيرة، ويا نورة، واغاني الساهر لاشعار نزار هويتها ليست عراقية وإن جاءت بأصوات عراقية)، فعشق الشام ومصر الذي ترجمت له النزاريات، وكل الاشعار التي سبقت او لحقت، هو عشق مسموح له بدرجات مختلفة، ان يسمي حبيبته، وان يتحدث عنها، فالاروقة والاماكن والفضاءات تتيح هذا النوع من البوح الذي يترجم طبيعة كل مجتمع وخصوصيته، بينما ظلت أغاني (حبينا ظي الگمر، وحبيبي أمك ما تقبل من أحاجيك، وحن وانه حن)، وغيرهن، يحتفظن بشفرة طلاسمهن حتى الموت، إذ الجميع لأخفاء معالم الحكاية بكل ما أوتوا من قوة، وهو ما يجعلهن تعبيراً دقيقاً عن العشق العراقي الم…
https://telegram.me/buratha