محمد عبد الجبار الشبوط ||
في تشخيصي لجوهر المشكلة السياسية عندنا، اقول ان العراق يعاني من خلل حاد في الجانب السياسي للمركب الحضاري للدولة والمجتمع. وما المحاصصة والفساد وسوء الخدمات وعدم احترام القانون وضعف المؤسسات وغيرها الا افرازات لهذا الخلل الحاد.
ومن خلال دراسة تاريخ واحوال العراق يتضح لنا ان هذا الخلل ليس جديدا، انما يمتد لسنوات طويلة في عمق التاريخ قد تتجاوز الالف سنة، هذا استنادا الى ان المجتمع العراقي الحالي هو امتداد بشكل من الاشكال للمجتمع العراقي الذي كان قائما في الزمان الذي سوف نحدده بعد لحظات.
في عام ١٣٢ هجرية (٧٥٠م) اصبح العراق قاعدة الخلافة الاسلامية، بقيام دولة العباسيين فيه، بعد ان تمكنوا من اسقاط الحكم الاموي بقوة السلاح. والعباسيون عائلة تتفرع من قبيلة قريش العربية الكبيرة التي تولت الحكم في العالم الاسلامي بعد وفاة الرسول محمد (ص) واعطت لنفسها "شرعية دينية" حصرية استنادا الى القوة والغلبة، واستنادا الى حديث منسوب للنبي يقول فيه:"الأئمة من قريش" كما في الصحيحين وكتب الحديث الأخرى بألفاظ متعددة؛ ففي صحيح البخاري عن معاوية قال: قال رسول الله: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين".
وقد ثار هؤلاء على حكم العائلة القرشية الثانية، اي بنو امية، الذين حكموا العالم الاسلامي قرابة ثمانين سنة، بعد انتهاء فترة حكم الخلفاء الراشدين الاربعة. ولم يكن انتقال السلطة من عائلة امية الى عائلة العباس تداولا سلميا حقيقيا للسلطة بالمعنى الذي نفهمه اليوم في الدول الديمقراطية. فقد بقيت قريش تحتكر السلطة وهي الحزب الحاكم في الدولة الاسلامية.
ومع ان العباسيين ثاروا على ابناء عمومتهم الامويين، وازاحوهم من سدة الحكم، الا انهم لم يعالجوا الخلل الذي احدثوه في النظام السياسي للدولة الاسلامية انذاك وهو توريث الحكم وحرمان الشعب من التعبير الجاد عن رأيه في مسألة الحكم. فقد جعل معاوية بن ابي سفيان الحكم وراثيا، وهو امر اعاد الثوريون العباسيون انتاجه. فاعتمدوه قاعدة للحكم، واحتكروا السلطة، وحصروها ضمن العائلة العباسية، يتوارثونها من الاب الى الابن او الابناء، او الاخوان، واقروا قاعدة ولاية العهد. وقد تقبل المحكومون في العراق وفي غيره من البلدان الاسلامية هذا الامر، وشرعنه لهم فقهاء كتبوا عن "الاحكام السلطانية"، كما فعل الماوردي في كتابه الذي يحمل هذا العنوان.
ويقال ان النبي (ص) تنبأ بوصف انظمة الحكم التي قامت في عهد الامويين والعباسيين بالملك العضوض. ففي "احاديث صحيحة" مروية عنه قال: "الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وفي رواية اخرى: "ثم يكون مُلك عُضُوض"، وفي رواية ثالثة: "وسَتَرَون بَعْدي مُلْكا عَضُوضاً". وفسروا الملك العضوض، فالمراد به التعسف والظلم. قال ابن الأثير في النهاية: (ثم يكون ملك عضوض) أي يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا.
ويبدو ان الناس في المجتمعات الاسلامية، ومنها المجتمع العراقي، انذاك، كانوا يتقبلون هذا الشكل من تولي السلطة والحكم. ولم يكونوا يعترضون على ان يتولى شخص او عائلة او جماعة الحكم الذي كان يحمل عنوان "خلافة رسول الله" بهذه الطريقة. فلم يكن مفهوم التداول السلمي للسلطة متداولا، مثله مثل مفهوم الشرعية الشعبية الذي يرى ان الولاية للامة او للناس باستثناء اصوات قليلة لم توثر على المجرى العام للحياة السياسية انذاك. ويبدو انه كان من المستحيل ان يتجه العقل السياسي الى القول ان الشعب او الامة او المجتمع هو مصدر شرعية الحاكم والحكم. واستقر في الاذهان ان التغلب والوراثة والقرشية هي مصدر الشرعية. فالخليفة مطاع ما دام قد استولى على السلطة بقوة السيف او بالوراثة عن ابيه.
https://telegram.me/buratha