محمد عبد الجبار الشبوط ||
بعد اسقاط الاستبداد، وتحرير الشعب من نير النظام الدكتاتوري، وجدنا ان الظروف الموضوعية المتعلقة بالامة لا تساعد على اقامة "الدولة الاسلامية"، فما هو العمل؟
تصدى الامام الراحل السيد محمد حسين فضل الله للاجابة عن هذا السؤال بشجاعة فقهية وسياسية تسجل له حين قال في ٣ حزيران من عام ١٩٨٨:"اننا نطرح الاسلام؛ ولكن اذا لم تكن هناك ظروف موضوعية لان يكون هو الحكم فيها، فتعالوا نطرح دولة الانسان".
لم يفصّل السيد فضل الله كثيرا في بيان مراده من مصطلح "دولة الانسان"، وكنت في حينها مقيما في بيروت، فاخذت على عاتقي اجراء حوارات معه من اجل استجلاء المفاهيم التي يكتنزها والكامنة في حروفه. وقد رحب السيد كثيرا واجريت معه سلسلة حوارات طويلة تحت ازيز رصاص المعارك الدائرة بين الميلشيات اللبنانية، ونشرت بعضها في كتاب حمل عنوان "المشروع الحضاري الاسلامي" في سنة ١٩٩١. وفي تلك الحوارات، عرّف فضل الله دولة الانسان بانها "الدولة التي تلتزم بالقيم الانسانية من الحرية والعدالة لكل الناس من دون ان يكون هناك عنوان عقيدي تفصيلي معين في واجهتها".
وعلى المستوى الشخصي، كانت تلك الحوارات الجسر الذي اوصلني بعد سنوات الى مفهوم "الدولة الحضارية الحديثة"، فليس سرا انني في بدايات وعيي السياسي الاسلامي كنت مؤمنا بمشروع الدولة الاسلامية الذي بشر به الصدر الشاب، ولكن بعد صدور "بيان التفاهم"
لحزب الدعوة الاسلامية عام ١٩٨٠ اتضح ان مشروع الدولة الاسلامية في العراق اصبح مؤجلا، ولم يعد حزب الدعوة الذي دخل في الثمانيات والتسعينات في جبهات عمل سياسية مع احزاب علمانية او غير سياسية يتحدث عن "الدولة الاسلامية" او استئناف الحياة الاسلامية في العراق، رغم ان خطابه الاعلامي كان متأثرا بالاجواء السياسية والفقهية الضاغطة التي نشأت بعد انتصار الامام الخميني في معركة اسقاط الشاه واقامة الجمهورية الاسلامية في ايران. وحينما سقط النظام الصدامي اخيرا في العراق عام ٢٠٠٣ و "تحررت الامة" من نيره دخل حزب الدعوة وبقية القوى السياسية المختلفة في مشروع حكم العراق بعده. وكان يفترض ان تقيم هذه القوى مصدات تمنع عودة الدكتاتورية والاستبداد حتى باشكال اخرى الى العراق. ولكن هذه القوى، وبسبب عيوب التأسيس الكثيرة، انخرطت في مشروع الحكم على اساس المحاصصة، والمحاصصة ليست مصدا في طريق عودة الاستبداد، بل كانت الطريق الى سلطة الاوليجارشية، وفتحت الباب الى عودة استبداد السلطة في غياب الدولة. وكانت هذه خطوة الى الوراء أجهضت منجز اسقاط الدكتاتورية ذي الكلفة العالية، بل اجهضت مشروع اقامة ديمقراطية حقيقية.
في مجرى كل هذه الاحداث والتطورات، كانت فكرة دولة الانسان التي طرحها فضل الله تتحرك في ذهني، حتى تبلورت عندي على شكل فكرة الدولة الحضارية الحديثة. جوهر تعريف هذه الدولة انها دولة قيمية، اي تقوم على اساس منظومة قيم عليا، مثل الحرية والعدالة وغيرها، ذات افق اخلاقي وانساني واسع، وكفيلة بتشغيل عناصر المركب الحضاري الخمسة (الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل) بشكل يضمن تحقيق السعادة والعيش الكريم للناس من خلال وفرة الانتاج وعدالة التوزيع. واستنتجتُ، بعد دراسة الحالات المماثلة في الكثير جدا من دول العالم، ان ذلك لا يتحقق الا اذا قامت الدولة على خمسة اعمدة هي: المواطنة، والديمقراطية، وسيادة القانون العادل، وفاعلية المؤسسات، والعلم الحديث. وازعم ان مثل هذه الدولة هي الضمانة الحقيقية ليس لوحدة العراق فحسب، وانما لعدم عودة الاستبداد باي شكل من الاشكال الى العراق. وكلما تاخرنا في اقامة هذه الدولة، فان فرص عودة الاستبداد تزداد يوما بعد يوم.
تم
https://telegram.me/buratha